لا يزال لبنان إلى اللحظة تحت تأثير الزلزال الذي خلفه اغتيال رفيق الحريري. ما زال الوطن الصغير يبكي مَن أعاده إلى خريطة المنطقة والعالم. ما زالت بيروت تشعر باليتم بعدما فقدت من أعاد الحياة إليها. ما زال المتهمون باغتيال رفيق الحريري ورفاقه يوم الرابع عشر من شباط يسعون إلى تبرئة أنفسهم.
يدّعي النظام السوري أنّه دفع ثمن الجريمة عندما انسحب من لبنان، فيما الطرف الذي تولّى التنفيذ على الأرض في حيرة من أمره. ولذلك يهاجم المحكمة الدولية أحيانا ويتظاهر بتجاهلها في أحيان أخرى. هذا الطرف المنفّذ، مثله مثل النظام السوري، يحاول الإيحاء بأنّه دفع ثمن فعلته. لذلك، حاول قبل أيّام الربط بطريقة أو بأخرى بين اغتيال عماد مغنيّة في دمشق من جهة وبين تفجير رفيق الحريري من جهة أخرى.
ما الذي تغيّر في عشر سنوات وما الذي لم يتغيّر؟.
ما تغيّر أنّ لبنان يعاني اليوم من حلول الوصاية الإيرانية مكان الوصاية السورية ـ الإيرانية. ما لم يتغيّر أنّ لبنان ما زال يقاوم. قاوم الإحتلال السوري بطرق مباشرة وغير مباشرة. قاومه خصوصا عبر البطريرك الماروني نصرالله صفير، أطال الله عمره، الذي وقف باكرا في وجه النظام السوري ودعا إلى مباشرة الإنسحاب العسكري من لبنان.
جسّد رفيق الحريري المقاومة السلمية للإحتلال السوري. كان حريصاً على سوريا ولبنان في الوقت ذاته. كان مشروع الإنماء والإعمار الذي باشره الدليل الأقوى على مدى التزامه سيادة لبنان واستقلاله. كان هدفه إقناع النظام السوري بالإنصراف إلى معالجة مشاكله في سوريا بدل متابعة الهرب إلى الخارج، إلى لبنان خصوصا.
منذ الرابع عشر من شباط ، توقف كلّ شيء في لبنان. لم يعد هناك مَن يضع حجراً فوق حجر في سياق مشروع يساهم في إعمار هذه المنطقة اللبنانية أو تلك. يكاد اللبنانيون أن يفقدوا الأمل في مستقبلهم ومستقبل أولادهم. إفتقدوا مَن كان يبني الإنسان أوّلا ويجعله متمسّكا بأرضه. إفتقدوا مَن كان همّه الأوّل تعليم الشباب من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق. لكنّ ذلك لم يمنع اللبنانيين من متابعة مقاومتهم لعملية وضع اليد على البلد وتهجير أكبر عدد من أبنائه بغية تحويل البلد إلى مستعمرة ايرانية.
لم يفقد اللبنانيون الأمل كلّيا بعد، لأنّهم ما زالوا، بأكثريتهم طبعاً، يؤمنون بمشروع رفيق الحريري الذي كشف أنّ هناك ما يوحّد بين اللبنانيين. لعلّ أهمّ ما أكّده رفيق الحريري أنّ اغتياله لن يمرّ مرور الكرام كما حصل قبل ذلك، منذ اغتيال كمال جنبلاط في العام ثمّ شخصيات لبنانية عدّة بينها الرئيس بشير الجميّل والرئيس رينيه معوّض والمفتي حسن خالد…
قال رفيق الحريري قبل أقلّ من ثماني واربعين ساعة من تفجير موكبه بالحرف الواحد: «من سيقتلني مجنون«. تبيّن أن القاتل مجنون بالفعل لأنّ اللبنانيين انتفضوا، بأكثريتهم الساحقة، في الرابع عشر من آذار وأخرجوا الجيش السوري من لبنان. كان الإعتقاد في الدوائر المشاركة بطريقة أو بأخرى في الجريمة أو المحرّضة عليها، أن ما حدث كان «رذالة« وأن الناس «ستنصرف سريعا إلى أعمالها« بمجرد تنظيف مسرح الجريمة!!!.
مَن قتل رفيق الحريري، أراد عملياً تغيير المعادلة الداخلية في لبنان بشكل نهائي وتحويل البلد إلى رأس حربة في المشروع التوسّعي الإيراني الذي تلقى دفعة قويّة بعد سقوط بغداد في يد الأميركيين في نيسان من العام وما تلاه من تقديم العراق على صحن فضّة إلى ايران.
ليس مصادفة أن رفيق الحريري إغتيل بعد أقلّ من سنتين على سقوط بغداد وخروج إيران المنتصر الوحيد من الحرب الأميركية على العراق. ليس مصادفة أيضا أنّ الفراغ الذي نجم عن الإنسحاب السوري من لبنان ملأه «حزب الله« الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري« الإيراني عناصره لبنانية. وليس مصادفة أخيرا أن يكون الشعب السوري منذ اربع سنوات في مواجهة مع كلّ الذين شاركوا في تفجير موكب رفيق الحريري.
خسر لبنان رفيق الحريري. ليس هناك مَن يستطيع تعويض هذه الخسارة. العزاء في أنّ رفيق الحريري كان على حقّ في كلّ كلمة قالها. نعم، «مجنون« من قتله و«مجنون« من لا يزال يسعى إلى تغطية جريمة العصر بجرائم أخرى بدءا باغتيال سمير قصير وصولا إلى إغتيال محمّد شطح، مرورا بجورج حاوي وجبران غسّان تويني ووليد عيدو وانطوان غانم وبيار أمين الجميّل ووسام عيد ووسام الحسن. هؤلاء هم فعلاً أشرف الناس بكلّ المقاييس.
أصداء الزلزال ما زالت تتردد. لم يكن إغتيال رفيق الحريري مجرّد إغتيال لرجل عمل في السياسة والإعمار وأعاد لبنان إلى الخريطة، كما كان مستعدا لإعادة بناء سوريا بدل تحوّلها إلى ركام وإلى مستعمرة إيرانية. كان أكثر من ذلك بكثير. كان جريمة في حق وطن بكلّ من فيه وكلّ ما يمثله. كان جريمة في حجم اجتياح النظام العائلي. البعثي في العراق للكويت قبل ربع قرن.
مرّة أخرى خسارة رفيق الحريري لا تُعوّض ولا يمكن أن تعوّض. لكن حساب القاتل والمحرّض سيكون عسيرا. هذا ليس عائدا إلى وجود المحكمة الدولية فحسب، بل إلى أنّ الجريمة ارتدّت على الداخل السوري أيضاً. مَن كان يتصوّر أنّ بشّار الأسد أصبح، بعد عشر سنوات على تخلّصه من رفيق الحريري غير قادر على الخروج من دمشق، تماما كما حصل مع صدّام حسين الذي لم يعد قادرا على مغادرة بغداد بعد مغامرته المجنونة في الكويت صيف العام .