«الانفحاط» بالأحداث لا يقلّ سوءاً عن المكابرة على حدوثها وارتداداتها وتحدياتها، وقد زادت عن حدّتها لبنانياً وعربياً نغمة أنّ ما قبل الحدث الفلاني ليس كما بعده، حتى باتت صفة «التاريخي» تلصق بكل كبيرة وصغيرة.
تستلزم علاقة سوية مع الأحداث ترتيباً آخر. تستلزم قبل كل شيء إقرار التمييز وتنميته بالتجربة والمراس والمقارنات، بين ما يتبدّل ببطء ويبدو في تباطئه كما لو أنه جامد في مكانه، لكنه في الواقع يتبدّل بعمق، وبين ما يتبدّل بعمق أقل، إنما بسرعة أكبر، لكنه في سرعته الخاطفة، والآسرة للعيون أو المصمّة للآذان، يأتي على ابعاد دون ابعاد، ويعود المرء فيصطدم في اثر ذلك بأنه كان يتوقع تغييرات اكثر بكثير مما حصل، وهذا عادة ما يحبط المفرطين في الحماسة.
الانتخابات البلدية التي فرغنا للتو من آخر جولة لها حملت متغيرات عديدة. في كل الطوائف تراجعت الى حد كبير صحة مقولة «الممثل الشرعي والوحيد للطائفة الفلانية».
الأكثر مكابرة على هذا المتغير بقي «حزب الله» الذي واجه سيده اولئك الذين خرقوا لوائحه في الجنوب والبقاع بشيء من قبيل «تبت أوهامكم«، ولو أنه لم يمانع، في معرض سجالي افتراضي، بأن تقوم بين الشيعة قوة ثالثة بعد الحزب والحركة.
في المقابل، التوجه بالود والاشادة تجاه الخاسر الذي حصد نتيجة قوية، وبالتهنئة للرابح الذي سطّر مفاجأة مهمة، طبع المسلك الذي اعتمد في بيروت ثم طرابلس. في بيروت، كان الخاسر ينافس الرابح «حداثية»، وفي طرابلس، فان الانتماء لتركة «ثورة الأرز» شكلت أرضية مشتركة لمتواجهين انتخابياً، يختلفون في التعليل والوسيلة، أقله اذا استندنا الى الخطاب المعتمد هنا وهناك. مسيحياً، تأجل «التسونامي» الموعود، وتبدو مراجعة ما كتبه البرت حوراني حول مجتمع الأعيان في جبل لبنان أساسية للجميع مسيحياً، اذا ما أرادوا الاستفادة من الخارطة الفيسفسائية للغاية للنتائج.
بالتوازي مع كل المتغيرات، فإن الصخب سريعاً ما سوف يهدأ، وتبرز مجدداً المناحي المتصلة بما يتغير ببطء.
ما الذي لم يتغير؟ اولاً خارطة القوى السياسية الأساسية منذ عقود مستمرة في كل الطوائف.
«الحصرية» تراجعت حجيتها كثيراً، أما «الصدارة» فعلى حالها. «التسونامي» لم يحدث، لكن العونيين ما زالوا الأقوى مسيحياً، لكن تحالفهم مع «القوات» لم يربح أكثر من نصف الدوائر. الغالبية العظمى من مسلمي لبنان السنّة صوتت للوائح مدعومة من تيار «المستقبل»، رغم حدة المواجهة في بيروت، ورغم الخسارة في طرابلس، والأهم، لم تحدث المواجهة في بيروت على أساس «الواكيمية» في وجه «الحريرية» في التسعينيات، بل على قاعدة تنافس في اطار المشترك النيوليبرالي، وفي طرابلس على قاعدة تنافس في اطار «ثوابت الرئيس الشهيد رفيق الحريري». أعيد انتاج ثنائية «حزب الله» وحركة «أمل» بلدياتياً، إنما بكمية كبيرة من الخروقات والأصوات لقوى أهلية أو سياسية متفرقة، مع التسجيل بأن أكثر المنافسين الشيعة للحزب والحركة رفع راية «ثوابت المقاومة».
ليس يمكن لأي كان أن يقول بعد هذه الانتخابات إنه رئيس الجمهورية بدليل الاستفتاء البلدي. هذا أيضاً معطى يفترض تسطيره بعد انتهاء الموسم. البلديات زعزعت ثقة بعض القوى بأفكار عن القانون الانتخابي العتيد كانت تطرحها من قبل، وقوّت اصرار قوى أخرى على قانونها المفضّل، وطرحت من بوابة «كلفة المناصفة» في بيروت، وواقع غياب التمثيل المسيحي والعلوي عن طرابلس، مشكلة التوفيق بين صحة التمثيل وبين صحة التنافس الانتخابي. لكن الانتخابات البلدية ليست استحقاقاً ينتخب على أساسه قانون انتخابي بعينه، ولا رئيس بعينه، وإن كانت خارطة نتائجها يفترض فيها ان تزكي تخفيض السقوف العالية على هذين الصعيدين.
فهل يتيح مشهد ما بعد الانتخابات، مبادرات سياسية على أصعد مختلفة، تضع حداً للانفعاليات والمزايدات والمكابرات، وتعيد إحياء فكرة التسوية الداخلية في لبنان، فكرة انه لا يسع اي طرف ان ينال كل ما يريده، ولا بد له ان يأخذ في مكان ما ويعطي في مكان آخر؟ تحديداً عند مناقشة الموضوعين الرئاسي والقانون-انتخابي، فإن استبعاد راهنية البحث عن تسويات، متعددة المستويات والأبعاد والأوجه، من شأنه أن يعيدنا للدوامات ذاتها، كأن انتخابات بلدية لم تكن. لكن الانتخابات حصلت، ومضت، وهي لا بد مؤثرة على الملفين هذين، تأثيراً يحتاج الى بعض الوقت لتقدير منحاه. يختصر الوقت أكثر، كلما جرى التمسّك بالواقعية السياسية أكثر، بما في ذلك واقعية التفاعل مع النزعات والمطالب التي تبدو غير واقعية لدى النخب وعموم الناس على حد سواء.