سيقول غبطته، نحن أمام خطر وجودي. كنا أمام نزفٍ يتسلل من جرح هذه البلاد إلى الخارج. نزوح وهجرة، لانعدام الأفق، ولثمن الحماية الباهظ. الأقليات تدفع ثمن البقاء من حريتها. المسيحيون في هذه البلاد، باستثناء لبنان، حمتهم أنظمة قمع واستبداد. في هذا الوضع، يكون الإنسان تابعاً، ذليلاً، بلا كرامة، لأنه مضطر أن يكون تابعاً، لا مواطناً. ينعم بالسلامة المذلة خوفاً من البطش والتنكيل. هذا في ما مضى من أنظمة صُرعت أو تصارع قبل أن ترحل. أما الآن، فالأقليات، ومنها المسيحيون، يهجّون بحثاً عن ملاذ.
الخرائط أُفرغت من شعوبها، أكانت من أكثرية أو من أقليات. والمسيحيون ينزحون، كأنهم في رحلة وداعية وأخيرة: مَن بقي من المسيحيين في فلسطين؟ اليهودية السياسية الصهيونية، هجَرت وقتلت ثم أقفلت طريق العودة. القدس بلا قيامة. بيت لحم بلا مسيح. الناصرة بلا ولادة. الجليل بلا معجزة. طبريّا بلا «ومشى على وجه اليم».
40 في المئة من أصل 1,8 مليون مسيحي هربوا من الحرب في سوريا و700 ألف تركوا البلاد. 140 ألف مسيحي شُرّدوا من أماكن إقامتهم في العراق وخمسة آلاف عائلة.
الخرائط تنبئ بعتمة كالحة. الأضواء التي انطفأت في سوريا، إنذار لنا ولكل إنسان عربي. مصيرنا، كمسيحيين، على محك محنة غير مسبوقة. لن أحدثكم عن محنة السنة مع الشيعة، ولا محن الشيعة مع السنة، بعد استفحال الإسلام السياسي وتأصيله بالعنف. لقد ذقنا في لبنان مرارة المسيحية السياسية عندما حملتما السلاح، وعندما حمله الآخرون، تارة معكم وتارة ضدكم، ثم في ما بينكم. فقد مسيحيو لبنان حضورهم في البقاع والجنوب والشوف وعاليه والشمال. هم الآن في محنة. وحدهم المسيحيون في لبنان كانوا منتشرين من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن البحر إلى حرمون. وحدهم عاشوا وتعايشوا مع كل المذاهب والطوائف، تساكنوا القرى والبلدات والمدن، فيما الطوائف الأخرى، برغم ادعاءاتها العروبية، كانت عاجزة أن تضم قراها وبلداتها، طوائف إسلامية من مذاهب مختلفة. والشواذ القليل في بيتها، ليس قاعدة أبداً.
من المفترض أن يقول غبطته إن الرئاسة الممتنعة، ليست البداية ولا هي النهاية. ما بين بعبدا و «الرابية»، حلم مشروع وطريق مقطوع. وما بين بعبدا و «معراب»، مسافة تقاس بما بين الثريّا والثرى.
من المفترض أن يؤكد البطريرك، أن الطريق إلى البرلمان مقطوعة من كل الاتجاهات، ولبننة الاستحقاق مطلب حق، دونه تاريخ وتقليد وعجز واتكال وتبعية. في تراث الرئاسة فصل أساس، عنوانه الانتخاب أخيراً والاتفاق أولاً، إذا انعدم الاتفاق بين دول عظمى ووسطى وصغرى، دولية وإقليمية وعربية، انقطع الطريق على النواب.
من المتوقع أن يقول لهما: أنتما لستما المشكلة، ولا أنتما الحل، ولن تحصلا على بطاقة العبور إلى الرئاسة، إلا بعد التوقيع عليها في عواصم باتت معروفة جداً، طهران، الرياض، دمشق (ربما) واشنطن، باريس و…
سيقول البطريرك: المشكلة هي في الخرائط، وأحد الأسئلة في الخرائط المتوقعة: «هل يبقى لبنان؟». الحرائق التهمت العراق، النيران السورية تتجدد، وها هي الذكرى الرابعة لاندلاع العنف في سوريا، تنذر بسنوات من القتال. الخرائط تفرغ من شعوبها. والمسيحيون أولاً. المسيحيون في خطر وجودي؟ بل كل هذه الأوطان في خطر وجودي. والاستقالة من السؤال، أخطر من الاستقالة من المسؤولية.
الطريق إلى بعبدا، أو الطريق إلى البرلمان، لا تقود لبنان إلى بر الأمان، برغم ما تشكله الرئاسة المسيحية من ضمان نظري، تقل أهميته، أمام طغيان المخاطر الميدانية.
سيذكّر غبطته «الجنرال» و»الحكيم»، بأن مَن سبقه في البطريركية، في مطلع الحرب الكونية، كان قوياً جداً. في البطريركية رُسمت خرائط لبنان التي انتقلت إلى باريس ليوقع عليها الكبار. لبنان المسيحي نشأ من هنا. ضُمت أو انضمت أو أُلحقت أو استُعيدت أقضية، ليتمكن من الحياة، بعد مجاعات وفظاعات في الحرب. تُرى، ماذا بقي من لبنان الأول، ذي الغلبة المسيحية؟ ماذا بقي منه بعد مطلب المشاركة والمحاصصة؟ ماذا بقي منه، بعد يقظة القومية العربية والناصرية بقيادة سنية؟ ماذا بقي منه، بعد الصحوة الشيعية وصعودها المذهل بدعم إيراني وسوري؟ من بقي لنا بعد «الأم الحنون» (وهنا لا بد من ابتسامة!)؟ لا شيء، نحن في عراء. وحلفاؤنا، أو حلفاؤكم، إما شيعة، يشايعون عون حتى النهاية، أو سنة يحازبون «القوات».
ينتهي غبطته إلى: لبنان هذا، لم يعد صالحاً، لا للمسيحيين ولا للسنة ولا للشيعة ولا للدروز ولا للأرمن. نحن أقليات متروكة، وأصحاب الأكثريات، أكثريات ممسوكة من الخارج. فأي لبنان هذا، وقد أضحى بلا لبنانيين، وبات مسكوناً بسكان يتربَّون على الهواجس والمخاوف، ويستقوون بالخارج الدموي، على ما تبقى من البلد ومن تبقى فيه.
المسألة ليست في مَن سيقيم في بعبدا، بل في مَن سيقيم في لبنان، والإرهاب يقرع سلسلته الشرقية، ويتسلل إلى بؤره الفالتة من الرقابة؟
يسألهما غبطته عما سيفعلان؟ عما إذا كان ممكناً كتابة نص آخر مختلف من أجل لبنان، دولة ديموقراطية دعامتها المواطنة، لا الطائفية. أليس لافتاً أن النظام الطائفي الذي أنشئ لحماية حقوق الطوائف، انتهى إلى تدمير الدولة وإفراغ المؤسسات لمصلحة حقوق زعامات تصدّرت عنوة التمثيل الطائفي، إما بالوراثة وإما بالإقطاعية وإما ببنادق الميليشيات في الحرب الأهلية؟
قبل الختام سيتمنى البطريرك على «الجنرال» و «الحكيم» أن يحملا هذا الهم إلى حلفائهما. فليبادرا إلى طرح المشكلة بشكل صحيح، من أجل ميثاق وطني، قبل أن يترجم إلى ميثاق سياسي. إن مشاركة الجميع، بحرية، وبلا وصاية، شرط من شروط معركة الفوز بالوجود. من أراد أن يربح المقاعد، فليذهب، إما إلى طهران أو إلى السعودية، أو إلى حيث تلتقيان. أما، من أراد لبنان، من أجل اللبنانيين، فليبدأ من هنا… تحصين لبنان يكون بحصانة شعبه لا طوائفه، وإلا، فليتوقع اللبنانيون، إما أن يكونوا أهل ذمة، تحت وصاية نظام سياسي استبدادي، أو أن يكونوا شتاتاً على أرصفة اللجوء.
طبعاً، هذا الذي ورد أعلاه، باب من أبواب اللامعقول اللبناني، برغم رجاحته العقلية. طبعاً، قد لا يقول البطريرك ما ورد أعلاه، فلن يسمع الضيفان، غير ما سمعاه سابقاً.
ليت البطريرك يفعل… تُرى، هل تنفع الصلاة في هذا المقام، من أجل رجاء وطني، أم أن الكنيسة القريبة لا تشفي؟