يعتقد المراقبون أنّ على «التيار الوطني الحر» التريّث في تحديد خطواته المقبلة ودرسها بميزان الجوهرجي للحفاظ على الستاتيكو القائم والذي بناه حجراً فوق حجر بالمواءمة بين مضمون «وثيقة مار مخايل» وورقة «نوايا معراب» مخافة أن يصطدم بالحاجة الى المفاضلة بين هذه وتلك. فما تراه سيفعل؟ وما هي التردّدات؟ وما هي الظروف والخطوات التي تحكم هذه المعادلة؟
ثمّة مَن يعتقد أنّ الإستحقاق الرئاسي بات محكوماً بمعادلات داخلية مركبة ومعقدة للغاية، يبدو أنّ جوانب منها ما زالت مطمورة تحت سقف بعض التفاهمات ووثائق النوايا المعلنة، وأخرى منها لم تطفُ على السطح بعد في انتظار بعض المحطات التي يمكن أن تكشف عن وثائق وتفاهمات غير معلنة، لتظهر بعدها حقائق جديدة قد تغيّر في مسار الأمور التي لن تحسم الإستحقاق الرئاسي بمقدار ما تعقّده وتبعده الى أجلٍ غير مسمّى.
ومصدر هذا الكلام يعود الى قراءة واقعية للمواقف المعلنة من الإستحقاق الرئاسي وتحديداً في الفترة الأخيرة التي جعلت من انتخاب العماد ميشال عون معبراً وحيداً لإنهاء الشغور الرئاسي، وهو ما عبَّر عنه بوضوح نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم الذي قال بالفم الملآن «مَن أراد انتخاب رئيس للجمهورية ليس أمامه سوى اتجاه واحد بانتخاب العماد عون رئيساً… ولن تستطيع القوى الكبرى ومجلس الأمن الدولي ومعهما الجامعة العربية أن تعدّل هذا المسار».
لم تكن مواقف قاسم منفصلة عما سبقها من المواقف، فقد سبقه اليها رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد الذي تحدث عن معادلة شبيهة، وقبله قال رئيس «التيار الوطني الحر» وزير الخارجية جبران باسيل الكلام نفسه بطريقة مغايرة متوجّهاً الى قيادة تيار «المستقبل» نيابة عن السنّة في لبنان بما معناه: «مَن يمشي برئيسنا نمشي برئيسه…». وكأنّ موضوع انتخاب عون رئيساً قد جرى في مكان ما من دون علم أحد وهو يتريّث في الإنتقال الى قصر بعبدا وأنّ القضية مسألة وقت وأنّ الباقي من هذه الرواية الغامضة لا يكتمل إلّا بعودة الرئيس سعد الحريري رئيساً للحكومة.
وبناءً على ما تقدم، أبدت مصادر واسعة الإطلاع صدمتها بالمعايير التي استند إليها أصحاب هذه المواقف على مستوى قيادتي «حزب الله» و«التيار»، ولم تجد لها أيّ تفسير سوى زيادة الضغوط على الحريري وفريقه ساعين الى تحميله وزر الشغور الرئاسي، وكأنّ المطلوب منه خطوة تجاه عون تنهي الشغور رغم معرفتهم بصعوبتها لا بل إستحالتها في مثل الظروف الراهنة. فموازين القوى السلبية لا يمكن أن تحسم التفاهم على عون رئيساً إذا ما بقيت أطراف أخرى تحول دون ذلك، ومحاولة حصر الرافضين بالحريري وحده خطوة غير بريئة لأنّها ليست منطقية وتتجاهل حقائق كثيرة.
فالمصادر التي تراقب موازين القوى ولديها حقائق كثيرة غير المعلنة الى اليوم، ترى بوضوح أنّ موافقة الحريري على خيار عون رئيساً لن يحفظ كتلة «المستقبل» النيابية موحّدة في هذه المرحلة بالذات، وقد يؤدي قرار من هذا النوع الى الإسراع في تفكّكها وتظهير الخلافات القائمة داخلها الى العلن بشكل أوضح ممّا ظهر الى الآن. فهم مقسومون بين مؤيّد لعون وبين مؤيّد للنائب سليمان فرنجية، وبين فريق ثالث يعترف بصعوبة وصول أيّ منهما الى قصر بعبدا وينادي بالخيار الثالث أيّاً كان الثمن.
كما أنّ تيار «المستقبل» يعاني من آثار الأزمة المالية التي يعانيها رئيسه والتي تُهدّد مؤسساته بالإنهيار وقواعده الشعبية والإنتخابية في مختلف المناطق بالإنحلال، وهي التي بدأت تعيش زلزالاً حقيقياً مادياً ومعنوياً وسياسياً تُعبّر عنه مواقف عكارية وطرابلسية وتتحدث عنه مختلف المواقع الشعبية في «التيار» وهو على أبواب مؤتمره الثاني المقرَّر في الأسبوع الأول من تشرين الأول المقبل.
وبناءً على ما تقدم، هناك مَن يعتقد أنّ امام «التيار الوطني الحر» فترة سماح قصيرة لإعادة النظر في السيناريو الذي يعتمده للوصول بعون الى بعبدا، نظراً إلى ما يواجهه من عقبات كبيرة ومطبات خطيرة. وأقل ما يُقال فيها وعنها إنها ستقوده حتماً الى مواجهات إضافية. فلا الحليف الجديد المقيم في معراب يؤيّد عون في خيارات التصعيد في الشارع وربما لا يُحبّذ المزيد من الضغوط التي تمارَس على «المستقبل»، إذ إنّ أيّاً كانت ملاحظاته وخلافاته مع الحريري، هناك معطيات أخرى عليه البدء باحتسابها سياسياً ووطنياً وانتخابياً.
ولا الحليف المقيم في الضاحية الجنوبية يجاريه في خططه لضرب الحكومة ولا في النزول الى الشارع. ومهما كانت ملاحظات «التيار» على رئيس الحكومة والسنّة، فهو يعرف أنها ستطاوله لاحقاً بشكل من الأشكال. ولا يستطيع «حزب الله» مجاراته الى حدود المسّ بمصير الحكومة، آخر الحصون التي يستفيد منها للحفاظ على الإستقرار الداخلي وتأجيل أيّ بحث في الملف اللبناني وسط انشغالاته بالملفات الإقليمية والأزمة السورية تحديداً.
وأمام هذه الوقائع الجديدة وما ستقود اليه مجريات الأحداث، ترى المصادر أنّ على قيادة «التيار» أن تحسب في خطواتها المستقبلية إمكان أن تكون قريباً أمام معادلة جديدة ستضطر فيها الى المفاضلة بين مضمون «وثيقة مار مخايل» الموقعة مع «حزب الله» في 6 شباط 2006 و«ورقة النوايا» مع معراب التي تم التوصل اليها في 4 حزيران 2015، لصعوبة الإحتفاظ بالورقتين معاً لألف سببٍ وسبب، أقلّه أنّ أيّاً منهما ولا الإثنتين معاً قد فتحتا الطريق الى قصر بعبدا. فما تراه سيفعل؟ وما سيكون عليه الوضع في البلد؟ ومَن يستطيع أن يتصوّر وضعاً كهذا وتردّداته على أكثر من ساحة؟