تلك كلمات من برتولد بريشت. قيلت في أزمنة التحوّلات المخيفة. شيء من هذا القبيل، يحدث الآن في هذا العالم. الذي لم يسمع بعد بالنبأ الفاجع، أو تراه سمع به، ولم يحرِّك ساكناً.
لقد ارتكبت «الديموقراطية» وحوشها. ليست المرة الأولى. دونالد ترامب، دعابة خفيفة، أمام ما أنتجته الديموقراطيات المشوّهة، (لدينا في لبنان شبيه). من قبل، أنتجت الديموقراطية هتلر. فاز بصناديق الاقتراع. طوّبته الجماهير المنصاعة وحشاً. ضحاياها بعشرات الملايين. من قبل أيضاً. أقدمت «جماهير» ثورة المليون شهيد، على انتخاب تيار إسلامي بقيادة عباسي مدني. تصيّده العسكر بانقلاب، ودخلت الجزائر في «مذبحة السنوات العشر».
ومن بعد، اقتنص «الإخوان المسلمون» في مصر فرصة الربيع العربي. أعطتهم صناديق الاقتراع السلطة. فاز عليها الشعب في الميدان، وانقضّ العسكر على الاثنين. فباتت مصر، بلا ديموقراطية وبلا حرية وبلا «إخوان».
إن للديموقراطية شياطينها. ملائكتها أسرى الكتب والنظريات. لذا قيل، إنها أفضل الأنظمة السيئة. غيرها، في غاية السوء. الديكتاتورية اغتصاب. الوراثة احتكار وسلب. الثيوقراطية تدجيل على الناس والله معاً.
لكن، ما بال النماذج الديموقراطية الحديثة، في «الدول الراقية» تشكو من جماهيرها؟ ها هو دونالد ترامب على رأس القوة العظمى. جاء السياسة من نقيضها. هو اللاسياسي جداً. نقيض التراث السياسي الأميركي. خرج عن تقاليد معمِّرة في الزمن. قال كلاماً مضادّاً لسلطة تمرّست في قيادة العالم، وتفوّقت في صناعة كون رهن أمرتها، وفي شنّ حروب أينما كان، وفي ضم المخالفين إلى بيت الطاعة الأميركي، وفي جعل الكرة الأرضية، مشاعاً لسلعها وثقافتها وإنتاجها وعسكرها.
هذه حقائق تشكل ترسانة من الحجج حول مكانة أميركا. لكن ذلك لا يكفي ترامب و «جماهيره» الشعبوية. يريدون أميركا، أكثر أميركية. أميركا للأميركيين أولاً. يريدون حلماً جديداً، بعدما بات المجتمع الأميركي بلا قضايا. العولمة افترست القضايا، بما فيها قضايا «الحالمين» أميركياً. أكثر من نصف العولمة أميركي، ومع ذلك، فقد أفقرت العولمة شرائح أميركية لا تُحصى. أفقدت الأميركي طمأنينة الغد. الخوف من المستقبل يقرع الأبواب. المصانع تهاجر، الشركات ترحل. أميركا الماضي، كانت خطراً على سواها، أميركا القادمة قد تكون أشد خطورة. والمؤسف، أن الديموقراطية الأميركية في أحوالها كافة، مخيفة. حصة العرب منها، حروب واجتياحات وهيمنة واستعداء ووقوف دائم إلى جانب الأعداء الخارجيين. إسرائيل نموذجاً، والأعداء الداخليين، من ملوك وحكام وأنظمة، تعادي شعوبها، وتصادق أميركا.
والآتي أعظم، أوروبا تترنّح أيضاً. الديموقراطية تهدد أنظمتها. اليمين المتطرف في فرنسا، يمثل المرتبة الأولى في التمثيل الشعبي. شرائح واسعة من المهمّشين والعنصريين وضحايا العولمة، باتوا «بيروليتاريا» اليمين المتطرف. سرق اليمين المتطرف، شعارات اليسار وقضاياه. سبق أن ودّع اليسار قواعده وبات لاجئاً سياسياً عند اليمين والوسط. لا يستطيع المراقب أن يميّز الخيط الأبيض من الخيط الأسود. اليمين المتطرف على موعد مع انتصارات، بعدما امتطى موجة العنصرية ضد اللاجئين، واستفاد من ضحايا العولمة المتغوّلة. النمسا انتقلت إلى معسكر اليمين المتطرف. هنغاريا واقفة في الصف. الاحتشاد العنصري بلغ الدول الاسكندنافية. أوروبا العجوز، تجدّد شبابها بعنصرية اليمين المتطرف… فماذا لو عاد هتلر، بطريقة أخرى؟ كل الطرقات تؤدي إلى «الرايخ العنصري». والغريب، أن ذلك سيحدث بالطريقة الديموقراطية. الديموقراطية بلا قضايا إنسانية واجتماعية وثقافية شاملة، منصة لحثالة القضايا اللاإنسانية العنصرية.
إن الفظائع في هذا العالم تتجدّد.
للعرب قاموس خاص. ليست الديموقراطية مفردة قابلة للاستعمال. لم يعرفوا الحرية والتعبير عنها في صناديق الاقتراع. العسكر حوّل الدولة إلى ثكنة. الملوك والأمراء أبدعوا في الإنفاق، فاشتروا المشكلات بالعطاءات والولاءات. الأحزاب خرجت من زمان من منطقة القضايا العادلة. لم يبقَ منها غير الذكريات والأحلام المنكسرة. سابق لأوانه التفكير بالديموقراطية. كل استعمال لها تشويه. لبنان نموذجاً. انتظرنا حتى الصباح كي نعرف مَن الفائز. كلينتون أم ترامب. الجنرال ميشال عون صار رئيساً قبل انتخابه في المجلس. الديموقراطية اللبنانية، شكل من أشكال الفولكلور السياسي.
أما بعد: ليس ترامب مشكلتنا. مشكلة العرب أولاً مع أنفسهم، والمشكلة الأخرى، هي أميركا لا رؤساؤها. ستبقى أميركا مع إسرائيل، فلسطين ليست في الحسبان. وقف الاستيطان مؤجل. تهديد القدس يتسارع. ما عدا ذلك، تستطيع أميركا أن تتعايش مع أنظمة مستبدة وممالك متخلفة وحركات إسلامية مناسبة، وكيانات سياسية قيد الإعداد، في المشرق العربي.
«إننا نعيش في زمن حالك. النبأ الفاجع هو نحن. قبولنا بهذا الواقع هو من الفظائع».