لو عاد مار مارون وتلاميذ مار مارون، والبطريرك الأول للموارنة مار يوحنا مارون الذي يصادف عيده اليوم ليتفقّدوا أبناءهم وشعبهم وكنيستهم، ماذا تُراهم يفعلون؟
هل يقفون ويتأمّلون في ما آلت إليه شؤونهم وقد عانوا ما عانوا من ويلاتٍ وتهجير وهجرة ومأساة إجتماعية واقتصادية وسياسية بعد أربعين سنة من الحرب في لبنان ومن الحروب الدائرة في الشرق الأوسط؟
أم أنّهم يفهمون وضع شعبهم ويُشجّعونه على الإقلاع عن بأسه ويأسه وعلى العودة إلى أصالة إيمانه بيسوع المسيح القائم من الموت وإلى روحانيّته النسكية ورسالته الأنطاكية القائمتين على القيم الإنجيلية في الحرية والمصالحة والانفتاح؟
والعودة إلى أصالة الإيمان تدعونا إليها الكنيسة اليوم في عيد أبينا مار يوحنا مارون من خلال التأمل في تعليم السيد المسيح في العظة على الجبل، العظة التي رسم فيها دستور الحياة المسيحية للمؤمنين الذين يريدون أن يكونوا له تلاميذ وشهوداً في عالمهم. ويقترح عليهم برنامج حياة في التصرّف المتواضع والوديع والرحيم والمحبّ والساعي إلى السلام.
ويذكّرهم أنّ الانتماء إلى المسيح يعني احتمال العار والاضطهاد وحمل الصليب ويحمّلهم أخيراً مسؤولية كبرى تضاهي كرامتهم أمام الله ويقول: «أنتم ملح الأرض… أنتم نور العالم»! لكن الويل لكم إذا فسد ملحكم وتحوّل نوركم ظلاماً!
سمع مارون تعليم السيد المسيح، فزهد في العالم وتسلّق قمة جبل في منطقة قورش الأنطاكية وراح يعيش نمط حياة نسكية قائم على الوقوف المستمر في العراء والاستغراق في الصلاة إلى الله والصوم والتقشف والعمل في الأرض.
كثر تلاميذه بعد وفاته سنة 410 وتبنّوا نمط حياته النسكية وانتشروا في كلّ مكان. منهم مَن بقوا في سوريا وجمعوا الناس حولهم وبنوا الأديار، وكان أكبرُها دير مار مارون على ضفاف العاصي، ومنهم مَن هجروا إلى جبل لبنان، فسكنوا جرود جبيل والبترون والجبّة وحوّلوا معابد الفينيقيين إلى كنائس وأديار جعلوا منها منارةً للإيمان المسيحي والثقافة والعلم.
إلى أن أتى يوحنا مارون، رئيس دير مار مارون الأم ومطران البترون، وأسَّس الكنيسة البطريركية في أواخر القرن السابع في جبل لبنان، في كفرحي، وأمّن لها استقلالاً ذاتياً في قلب الكنيسة الأنطاكية وضمن نطاق الأمبراطورية الإسلامية العربية، من دون أن تتقوقع على ذاتها أو تتعدى على الآخرين. ما سمح لها بالانفتاح والانتشار جنوباً وشرقاً وغرباً.
فحافظت الكنيسة المارونية بعد مار يوحنا مارون، وعلى مرّ العصور، على روحانيّتها النسكية ومركزيّتها البطريركية من جهة، وعلى صفتها الأنطاكية من جهة أخرى، إذ كانت انفتاحاً على العالم العربي أولاً، ثمّ على العالم الغربي. فأمّنت لها استمرارية في حمل الشهادة المميّزة في الحرية والديموقراطية واحترام التعددية.
عاش الموارنة، في مسيرة تاريخهم، عناصر النسك في حياتهم اليومية على قمم الجبال أو في قعر الوديان ممارسين الصلاة والسهر والصوم والزهد في العالم والعمل في الأرض التي حوّلوها إلى جنّات. وظلّوا متكوكبين حول بطريركهم وموحَّدين في كنيستهم، ما أعطاهم مناعة للدفاع عن النفس وعن الآخرين في العيش الحرّ الكريم.
وهذا ما يثبّته البطريرك اسطفان الدويهي الكبير الذي كان أوّل مَن دوّن تاريخ كنيسته المارونية في تزامنه مع التاريخ الإسلامي بحيث إنّ التاريخَين أصبحا عنده تاريخاً واحداً. (كتابة تاريخ الأزمنة).
فكتب تاريخ شعبه، كما يقول الأب يواكيم مبارك، في المرحلة التأسيسية الأولى، أي المرحلة النسكية مع مار مارون وتلاميذه في جبال قورش. ثمّ توسّع في المرحلة التأسيسية الثانية المتمثلة بهجرة تلاميذ مار مارون إلى جبل لبنان، «الجبل الذي يسكن فيه أولياء الله تلبيةً لدعوة منه»؛ «وقد أتوا إليه لا كلاجئين ومضطهَدين، بل كمرسلين يستخدمون النسك في الرسالة».
وفي المرحلة التأسيسية الثالثة مع البطريرك يوحنا مارون، الذي «دخل إلى جبل لبنان وتجمع إليه الناس من غريب وقريب إلى أن صاروا (قطيعاً) شعباً عظيماً عمّ كلّ بلدان الشام»، بدأ التنظيم الكنسي والإجتماعي للموارنة الذين بنوا عالمهم الخاص في جبل لبنان وأمّنوا له استقلالية نوعية، قبل أن يعملوا مع إخوتهم المسيحيين والمسلمين والدروز على تأسيس الكيان اللبناني الذي أصبح، نقول اليوم، دولة لبنان الكبير مع البطريرك الياس الحويك سنة 1920، و»دولة لبنان جمهوريةً مستقلة ذات وحدة لا تتجزّأ وسيادة تامة» مع البطريرك انطون عريضه والشيخ بشاره الخوري ورياض الصلح سنة 1943.
ينظر البطريرك الدويهي إلى الكنيسة المارونية، «بوصفها جزءاً لا يتجزّأ من البطريركية الأنطاكية، إلى كونها مسؤولة عن مصير المسيحية في الشرق. الشيء الذي يقتضي أن ننظر إلى الشرق لا كبيئة معادية أو مقرّ عابر، بل كمحيط طبيعي وموطن أصيل ومقرّ دائم لا بديل عنه».
فكان رائداً في نظرته إلى التاريخ وتطلّعه إلى المستقبل. حتى إنّ البابا القديس يوحنا بولس الثاني يعود ويذكّرنا، بعد أكثر من ثلاثمئة سنة، بتجديد انتمائنا إلى محيطنا العربي وبالحفاظ على علاقاتنا التضامنية مع العالم العربي وتوطيدها وبتعزيز الحوار الصادق والعميق مع المسلمين.
إنها رسالة لنا جميعاً، لكنيستنا ولشعبنا ولبني قومنا، لكي نتمسّك بثوابتنا الإيمانية والكنسية والوطنية والإجتماعية.
إنها دعوة لنا، نحن أبناء مارون، إلى فحص الضمير والتوبة وطلب الرحمة في سنة الرحمة لكي نعود «ملحَ أرض لبنان ونور أرض منطقتنا العربية»، كما يقول عنا بعض إخوتنا المسلمين.
إنها دعوة إلى عيش قيمنا الروحية والإجتماعية والحضارية والثقافية لكي نعمل مع إخوتنا، المسيحيين والمسلمين، على إعادة بناء لبنان وطناً رسالة في الحرية والعيش الواحد المشترك في احترام تعددية الطوائف والأديان والثقافات والحضارات، وأن نعزّز انتماءنا إلى محيطنا العربي.
إنها دعوة للعودة إلى عيش روحانيّتنا النُسكية في العلاقة المباشرة مع الله وفي الزهد في العالم وفي التعلّق بأرضنا المقدسة التي أصبحت عنصراً من عناصر هويّتنا الكَنَسية والوطنية.
لا تخافوا إذاً يا أبناء مارون، فأنتم أقوياء بإيمانكم وبتاريخ كنيستكم وآبائكم وأجدادكم. وأنتم قادرون على الاستمرار في حمل رسالتكم المميَّزة في محيطكم.