أبى الوزير جبران باسيل إلا أن يتابع تعطيل حياة اللبنانيين وإضفاء ما يكفي من التوتر على تنقلاتهم وصفاء حياتهم في قُراهم خلال عطلة نهاية الأسبوع المنصرم. حطّ الوزير رحاله في محطات عدة من قضاء عاليه كان آخرها محطة دمويّة في قبرشمون، سقط نتيجتها مواطنون، بعد جولة من الترهيب وإطلاق النار إثر إقفال الطريق إحتجاجاً على الإطلالات الفوقيّة لمعالي وزير الخارجية والمغتربين.
الزيارة التي انتهت بمأساة هي الثالثة من نوعها لمنطقة الجبل، بعد زيارة نبش القبور في رشميا وزيارة قداس التوبة والغفران في دير القمر. ما رمى إليه الوزير باسيل في الزيارتين كان إسقاط محطة مجيدة عنوانها «المصالحة التاريخية في الجبل» إستندت الى رؤيا جامعة ومسؤولية وطنية جسّدها لقاء الكردينال مار نصرالله بطرس صفير والزعيم وليد جنبلاط، وإسقاط قامة مسيحية كبيرة من رجالات لبنان من ذاكرة اللبنانيين. في أول محطة في زيارته الثالثة لم يجدّ وزير الخارجية أمام كل ما يعصف بلبنان وبالمنطقة من تّحديات سوى «كوع الكحالة» فاستفاض في الكلام عن دلالاته التاريخية وعن دور الكحالة «كمِعبر للصمود مع ضهر الوحش وسوق الغرب في حماية الشرعية اللبنانية ولو سقطت الكحالة، كانت سقطت الشرعية اللبنانية بمعناها العميق».
الزيارات الثلاث لا يمكن فصلها عن استيلاد «كتلة ضمانة الجبل» في عملية سياسية قيصرية، وتوزير ممثّل عنها، والتعامل مع مشيخة العقل التي أُنتجت خلافاً للقانون وكأنّها سلطة شرعية بالإضافة الى العراضات المسلّحة في الشوف والشويفات ناهيك عن حجب المطلوبين عن القضاء. وفي الزيارات الثلاث تكرار غير مبرّر لمعزوفة الإستفزاز واستثارة الغرائز واستعادة لمحطات مظلمة لم يشارك معاليه في أيٍّ منها، نظراً لحداثة سِنه أو لأن حزبه السياسي لم يكن قد أبصر النور بعد، أو هي استعادة لتاريخ غابر إمتزجت فيه عوامل إقليمية ودولية وهي بحاجة الى مراجعة وإعادة قراءة لتبيان حقيقتها ولم يشكّل الساسة اللبنانيون على سذاجتهم في خضمّها سوى تفصيلاً بسيطاً لأنهم لم يكونوا على قدر الإلمام بالصراعات الدولية أو بما يجري في المنطقة.
في الزيارات الثلاث ثأرية واضحة تستعيد صورة «المسألة الشرقية» واستخدام إمارة جبل لبنان وتركيبتها الطائفية لتغيير معادلات السلطة. وفي الزيارات الثلاث خطاب ينحو بلبنان نحو وطنٍ مشكّلٍ من موارنة وطوائف، من الناقورة الى النهر الكبير، وطنٌ ينبغي أن يُحكم بنظريّة الإنتداب وبامتيازات تعكس إنتقاماً لعهودٍ من الحذر وتفلتٍ من كلّ روادع المحاسبة، متسلحة بسلطة تحتكر كلّ مفاصل الدولة وتمارس دكتاتوريتها بلبوس ديمقراطي. وفي الزيارات الثلاث إستخدام لخرافة الإستهداف التي سببتها ممارسات الموارنة أنفسهم في التلاعب السياسي ضمن ظروف ملتبسة، إنخرطوا خلالها في حملات من الإقتتال الدموي، ثم حاولوا ببراعة إظهار أنفسهم أنّهم ضحايا للإقتتال الطائفي أو الثقافي!
لا بدّ من التساؤل عن غياب الإهتمام والتّدخل الرسمي للرؤساء الثلاثة خلال الزيارة وأثناء احتدام الإحتجاجات التي أدّت الى هذه المأساة الدموية، إذ لم يصدر عن أي منهم أو عن أي موقع سياسي أو ديني ذي صلة ما يوحي بتقدير تداعيات إنهيار الإستقرار في الجبل. لماذا لم تتمّ الدعوة الى إجتماع إستثنائي أمني سياسي لتدارك الموقف وتكثيف الوجود الأمني؟ هل كان المطلوب المزيد من الضحايا والمزيد من إراقة الدماء؟ ما هو المقصود من تكرار التهجم على الجيش اللبناني واتهامه من قبل الوزير ارسلان بالمزارع المذهبية، هل كان المطلوب أن يصطدم الجيش بالمواطنين؟هل كان المسؤولون الغائبون يتوقّعون أن تسجل واقعة قبر شمون بداية أفول وليد جنبلاط عن المسرح السياسي، فيحل ذلك برداً وسلاماً عليهم ؟ هل المطلوب حروب بالواسطة مع وليد جنبلاط من داخل البيت الدرزي وضمن الطائفة الواحدة تمهيداً لعسكرة الحياة السياسية في الجبل، وهل يتخذ العهد خطوات سبق أن ثبتت درجة خطورتها في عهود سابقة ؟ وما هو القاسم المشترك بين كل ذلك وانكفاء المسؤولين وتحولهم الى متفرجين ومن هو الناظم لكل ما يجري؟
من حقنا التساؤل بكلّ موضوعية عن جدوى هذا النشاط الريفي المتنقل لوزير الخارجية في كل لبنان وإصراره على الصدام مع مواطنين أجمعوا بالرغم من اختلاف إنتماءاتهم السياسية والطائفية على نعته بالتعصّب والفساد وعدم احترام الدستور، فيما يصرّ كلّ مرة على إظهار صفاقة لا حدود لها وتجاهلاً عارماً لكل تساؤلاتهم وهواجسهم يُراد منها القول أنّ الوزير ليس شريكاً ثقيلاً في السياسة اللبنانية فحسب بل هو قدر فرضته معادلة لا يمكن الإفلات منها؟
واقعة قبرشمون قدّمت لمن يعنيهم الأمر من العابثين بالأمن الوطني ما يكفي من العِبَر، فهل يكررون المحاولة ويصدُق في لبنان المثل الروسي الثمين «القبر وحده يشفي الظهور المحدودبة»؟
مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات