IMLebanon

ماذا بعد الجرود؟

السؤال الذي يواكب مشارفة معارك الجرود على إعلان الانتصار بالحسم النهائي ضد المجموعات الإرهابية هو: ماذا بعد؟ وأيّ انعكاسات لما تحقق في الميدان العسكري على الواقع السياسي في الداخل اللبناني؟

الانتظار هو سيد الساحة؛ بعض القوى السياسية التي تربطها علاقة خصومة شديدة مع «حزب الله» لا تثق بما يقوله الحزب، وقد عبّرت عن الخشية من لجوئه الى محاولة استثمار انتصار الجرود داخلياً، والسعي الى نسف قواعد اللعبة الداخلية ومحاولة فرض معادلة جديدة تكون فيها كلمته هي العليا، ومن هنا بادرت الى ما يسمّيها خصوم الحزب الى إطلاق صرخة استباقية في وجهه، لقطع الطريق امامه ومحاولة ثَنيه حتى عن مجرّد التفكير بهذا الاستثمار الخطير على التركيبة اللبنانية.

قد تكون خشية هؤلاء مبررة لأنّ كل حبال الود والثقة المتبادلة مقطوعة بينها وبين الحزب، وهي حقيقة معلومة من قبل الجميع ويؤكدها التاريخ الصدامي بينهما، الّا انها لا تنسجم مع قراءات سياسية، ترسم صورة المشهد الداخلي ما بعد الانتصار كما يلي:

– مع طَي صفحة «النصرة» و»داعش» في الجرود اللبنانية، يدخل لبنان في مرحلة جديدة عنوانها الأساس هو التخفف من هذا الثقل الإرهابي الذي جثم على صدره لسنوات، وانّ أولوية ما بعد الانتصار هي تركيز الجهد على كل المستويات السياسية والأمنية والعسكرية نحو جعل هذا الانتصار كاملاً، بتنظيف الداخل من الخلايا الإرهابية النائمة، وهي بلا أدنى شك مهمة قد تكون اصعب بكثير من حرب مباشرة مع إرهاب متمركز في قواعد ومراكز معلومة في الجرود، خصوصاً انّ تلك الخلايا متغلغلة في اكثر من مكان، وتتخفّى في بعض الزوايا والقراني والبيئات السياسية والمذهبية، وضمن نقاط تجمع النازحين السوريين. وبالتالي كما انّ هذه المهمة تستوجب جهداً وحضوراً وحرفية عالية من كل الأجهزة الأمنية والعسكرية، فإنها تستوجب وقتاً وصبراً.

– انّ أي محاولة من قبل أي طرف للاستثمار على الانتصار داخلياً، ستكون محكومة بالفشل الحتمي، لأنّ الأرضية اللبنانية رخوة الى حد لا تحتمل أي نوع من الاستثمار مهما كان حجمه، وقد ثبت على مرّ التاريخ اللبناني انّ لبنان أضعف من ان يُحكَم من طرف واحد، واضعف من يتحمّل ان يملي أي مكوّن رأيه او توجّهه او ارادته عليه. فلبنان هكذا يختلف عن كل دول العالم، محكوم بمساكنة في واقعه كما هو حالياً، ولو بالإكراه، لا يستطيع احد ان يغادرها او يبدّل التركيبة القائمة.

ومن هنا ليس في مقدور أي طرف مهما امتلك من قوة وقدرات داخلية او مدعومة من الخارج الإقليمي او الدولي، أن يفرض ارادته على الداخل اللبناني القائم على تلاوين ومكوّنات سياسية مختلفة، وعلى مربّعات مذهبية معقدة يستحيل خضوعها او إخضاعها لمربّع سياسي او مذهبي معين.

وتقتضي هنا الإشارة الى انّ «حزب الله» يدرك محاذير ومخاطر خطوة من هذا النوع، ولذلك سارع عبر أمينه العام وكذلك عبر سائر قياداته الى تطمين الداخل بأنّ فكرة الاستثمار ليست مطروحة، لا بل انها ليست موجودة أصلاً في أجندته.

وتبعاً لذلك من الخطأ حتى مجرّد التفكير بتغيير ولَو طفيف في اللوحة الداخلية السياسية وغير السياسية، او الافتراض بأنّ تغييراً ما او تعديلاً ما سيدخل على الصورة الحكومية القائمة حالياً، أقلّه الى ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة ربيع العام المقبل.

– انّ الانتصار الذي تحقق على الإرهاب، او الذي سيعلن في أي وقت، هو امر شديد الأهمية بالنسبة الى لبنان، الّا انّ الخطاب الناري سياسياً واتهامياً، المتبادل بين القوى السياسية، قد أفقده وهجه ويكاد يجعله بلا أي معنى، ذلك انّ هذا الخطاب تعاطى مع الانتصار ككرة يركلها في هذا الاتجاه او ذاك. وبدل ان يُستفاد منه كمحطة وفرصة للانتقال بالبلد الى حقبة التوحّد والتلاقي الداخلي، أعاد فتح صفحة الانقسام الحاد، وعاد الى استحضار مناخات العام 2005 وتأزماتها ومتاريسها واللغة الحربية كتلك التي كانت سائدة في زمن الاصطفاف بما بين 8 و14 آذار.

– انّ الخطاب الناري المتبادل بين القوى السياسية، قدّم صورة مسبقة لما هو آت، ولما سيكون في مرحلة ما بعد الانتصار، في ظل المتراسين الجديدين القديمين، واللغة الصدامية المتبادلة في هذه الفترة تؤشّر الى انّ لغة التقاصف السياسي الراهنة ستحتدم أكثر فأكثر في الآتي من الأيام، خصوصاً انّ البلد سيدخل بعد فترة وجيزة في مدار الانتخابات النيابية، والتي قد يرى الأطراف المعنية بها انها تتطلّب لغة من هذا النوع، وعلى وجه الخصوص من قبل بعض التيارات السياسية التي تحتاج الى حشد جمهورها وجَذبه نحوها من جديد، بعدما تأثر ببعض الظواهر التي نَبتت داخل جسم هذه التيارات او على حافتها او في محاذاتها او في محيطها وداخل مجتمعاتها.

– بمعزل عن كل ما تحقّق ضد الإرهاب في الجرود سواء على الجانب اللبناني او على الجانب السوري، فثمّة مؤشرات توحي وكأنّ لبنان على عتبة الدخول في مرحلة شديدة الدقة والحساسية، وهنا ينبغي التوقف ملياً عند الموقف الأميركي الأخير ضد «حزب الله»، الذي أعلنته المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هالي، والتي اتهمت الحزب بمراكمة السلاح في الجنوب في إطار التحضير لحرب جديدة ضد إسرائيل.

واللافت في الموقف الأميركي هذا ليس اللغة الحربية ضد «حزب الله» بل اللغة القاسية غير المسبوقة ضد قائد «اليونيفيل» الجنرال الإيرلندي مايكل بيري، واتهمته بأنه «يظهر عدم الفهم المُخجل للوضع»، وأنّ موقفه من سلاح الحزب غير واضح، وأضافت: «إنه الشخص الوحيد في جنوب لبنان الذي لا يرى ما يجري».

يستخلص صاحب القراءة من الموقف الأميركي الآتي:

– أولاً، يبدو انّ هناك قراراً دولياً كبيراً ترعاه واشنطن بعدم ترييح «حزب الله»، وعدم خروجه من الميدان السوري وكذلك من حرب الجرود بصورة المنتصر. بل يراد إشغاله وإبقاؤه في دائرة الضغط والتضييق عليه.

– ثانياً، يؤشّر الموقف الأميركي الأخير الى وجود توجّه واضح لدى الإدارة الأميركية نحو وضع الحزب إن عاجلا او آجلا على منصّة التصويب عليه.

وليس مستبعداً ان يتبدّى أوّل الغيث في هذا المجال في تسريع إعلان العقوبات الأميركية على «حزب الله»، بالتوازي مع إعادة وضع سلاحه على طاولة النقاش الداخلي وتصويره من جهة، خطراً على الداخل اللبناني، ما يمكن ان يحمّس بعض الأطراف الداخليين على إعادة رفع الصوت من جديد وبوتيرة اعلى من السابق ضد هذا السلاح.

وتصويره من جهة ثانية خطراً مسبباً لردة فعل إسرائيلية، علماً انّ في الإمكان قراءة الموقف الأميركي وكأنه يَستبطن موافقة أميركية مسبقة على أيّ عمل عسكري إسرائيلي ضد لبنان. وهنا ليس مستبعداً ارتفاع وتيرة التهديدات الإسرائيلية ضد لبنان في المرحلة المقبلة، وهو ما قد يستثير حملة داخلية على الحزب بذريعة وضعه لبنان في دائرة الخطر والتدمير الإسرائيلي.

يقول سفير دولة كبرى انه لم يتفاجأ من موقف واشنطن من «حزب الله»، الّا انّ المفاجئ هو الهجوم غير المسبوق على قائد «اليونيفيل»، فهي إشارة واضحة الى استبداله في القريب العاجل بشخصية تعتبرها واشنطن اكثر تشدداً حيال «حزب الله»، وهذا يعبّر صراحة عن رغبة واشنطن التي لا تخفيها في تغيير في وظيفة «اليونيفيل» وتعديل قواعد الاشتباك السارية حالياً في جنوب لبنان وتوسيع امدها لتصل من الحدود الجنوبية الى الحدود اللبنانية السورية.

يضيف السفير نفسه «المنطقة كلها أمام تحولات عميقة، وثمة وقائع جديدة يفرضها الميدان العسكري من العراق الى سوريا. لا نقول بإمكان حصول او عدم حصول عمل إسرائيلي ضد «حزب الله» في لبنان، ولكن لكل عمل عسكري كلفته، على من يقوم به وكذلك على من يستهدفه، قد تكون هناك رغبات دائمة بالقيام بمثل هذا العمل، إنما الرادع الأساس له هو الخشية من ألّا يبقى هذا العمل العسكري – إن حصل – محصوراً ضمن البقعة التي يبدأ فيها، اذ يمكن ان يتمدّد الى جبهات أخرى فعندها قد تكون الكلفة عالية جداً على الجميع.

على انّ مرجعاً سياسياً يرى انّ الحذر يجب ان يبقى قائماً من الجبهة الإسرائيلية، ويقول: لستُ قلقاً من هذه الناحية، تِبعاً لما نسمعه من الديبلوماسيين الاميركيين والأجانب الذين يؤكدون أولوية حماية الاستقرار الداخلي في لبنان.

الّا انّ المُقلق هو محاولة رمي البلد في جو من التصعيد السياسي الذي لا يؤتى منه سوى التوتير بلا أي طائل وبلا أي نتيجة. اللعبة التي تجري من حولنا اكبر بكثير من لبنان، بل يكاد لا يُرى فيها. وللتذكير فإنّ لوليد جنبلاط مقولة شهيرة: «في لعبة الكبار بتروح كل القوى الصغرى دَعوسة».