هل سيُغيّر الرئيس التُركي رجب طيّب أردوغان مواقفه مِن التحالف الإقليمي ـ الدولي ضدّ «داعش» وأخواتها، ويَتراجع عن تحفّظاته التي أعلنها في اجتماع جدّة قبلَ أسبوعَين؟
هذا السؤال مدارُ بحث لدى كثير من الأوساط السياسيّة والديبلوماسيّة الإقليميّة والدوليّة، خصوصاً بعدما صرّح أردوغان إثرَ عودته من نيويورك أمس أنّ حُكومته ستُعيد النَظَر في قرارها في شأن الحرب على «داعش»، وأنّ مجلس النوّاب التركي سيتّخذ خلال اجتماعه في
2 تشرين الأوّل المُقبل قراراً بالتدخّل العسكري.
تصريح أردوغان هذا فاجأ كثيرين ممَّن كانوا يعتقدون أنّه سيحرص على إبقاء مسافة بينه وبين حُلفائه في التحالف وعلى رأسهم الولايات المتّحدة الأميركيّة، فيما لم يَكُن هذا القرار مُفاجئاً لأوساط أُخرى رأت أنّ أردوغان قد فهم الرسالة الحازمة التي وَجّهتها إليه واشنطن، سواءَ عبر اللقاء الذي تمَّ بينه وبين نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الذي أتى إلى نيويورك لمُقابلته، فيما كان الرئيس باراك أوباما يستقبل في الوقت نفسه خَصْمَ أردوغان اللدود الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي.
لقد فهمَ أردوغان الرسالة أيضاً، من خلال قرار مجلس الأمن الدوليّ الأخير الذي وَجدَهُ سياسيٌّ عربيّ مُخضرَم مُفصَّلاً تفصيلاً على «الحالة التركيّة»، وأنّه يحمل تهديداً واضحاً للحكومة التركيّة إذا لم تتراجع عَن سياساتها الداعمة والمُساعدة للتنظيمات المُتطرّفة في سوريا.
بل ويعتبر هذا السياسيّ أنّ غارات التحالف على المُنشآت النفطيّة السوريّة الواقعة تحت سيطرة «داعش» لا تنحصر أهدافها بضرب موارد مهمّة لهذا التنظيم الإرهابيّ فحسب، بل هي تقول لأنقرة «أنّكِ إذا لم توقفي شراء النفط السوري والعراقي من «داعش»، فنحن كفيلون بوَقف الإنتاج تماماً».
ويُضيف هذا السياسيّ أنّ أردوغان وإدارته حاولا المُستحيل لإقناع واشنطن بضرورة تمتّعها بهامش من الحركة بعيداً من استراتيجيّة التحالف، فمن جهة أوضح المسؤولون الأتراك أنّ انضمامهم إلى الحرب على «داعش» وأخواتها سَيُطلق العنان للأحزاب الكرديّة في شمال سوريا والعراق لتدعم أكراد تركيا، فيتحقّق حلم الأكراد بإقامة دولة «كردستان الكُبرى» في العراق وسوريا وتركيا وصولاً إلى إيران لاحقاً.
ومن جهة أُخرى، فإنّ الحجج التي ساقها المسؤولون الأتراك لإقناع المسؤولين الأميركيّين باحترام خصوصيّاتهم في التعامُل مع التنظيمات المتطرّفة، هي أنّ هذه التنظيمات تتمتّع بعمق استراتيجيّ كبير داخل تركيا نفسها، وأنّه يُمكنها تنفيذ عمليّات إرهابيّة داخلَ الحدود التركيّة، بما ينعكس سلباً على السياحة التركيّة التي تُساهم بنحو 35 مليار دولار مِن الناتج القوميّ التركي.
بل إنّ المسؤولين الأتراك، وفقَ السياسيّ المخضرم نفسه، ذهبوا أبعد من ذلك، فأوضحوا لواشنطن أنّ اشتراكهم في الحرب على «داعش» سيُفقِد أنقرة دورها «مرجعيّةً» للمُسلمين السُنّة على مستوى العالم. ويعتقد السياسيّ إيّاه أنّ حزب «العدالة والتنمية» قد توافَقَ مع الإدارة الأميركيّة على هذا الدور المُرتجى لتركيا لقيادة «الإسلام المُعتدل»، وبالتالي فإنَّ مِن مصلحة أنقرة، وواشنطن كذلك، ألّا تخسَر تركيا هذا الموقع.
وطبعاً، تجدُ تركيا أنصاراً لها داخل الإدارة الأميركيّة يَعتقدون أنّ مِن حقّها أن تكون لها ذراع عسكريّة كـ»داعش» و»النُصرة» وغيرهما، تماماً كما لإيران ذراع عسكريّة كـ«حزب الله» وغيره من تنظيمات مُسلّحة في العراق ودول أُخرى، على حَدّ زعمهم.
لكن في ما يبدو، لم تنجح كلّ هذه الذرائع التركيّة في إقناع أوباما بالتراجُع عَن ضغوطه على أنقرة، خصوصاً بعدَ هزائم لحقت بتركيا في ساحات عربيّة عدّة، أوّلها كانَ في مصر، وآخرها في اليمن، مروراً بإخفاقها في تنفيذ كلّ وعودها بإسقاط النظام في سوريا.
ويسخر بعض المسؤولين الأميركيّين من سياسة أردوغان، قائلين: «لقد انتظرنا أن يكون لأنقرة موقع في كثير من الدول العربيّة، فإذا بها تُصبح مع اسطنبول عاصمةً لقيادات «الإخوان المُسلمين» اللاجئين من بلادهم كسرويا والعراق ومصر، وأخيراً اليمن، حتّى لا نُشير إلى كثير من قيادات حركة «حماس» التي بدأت تستقرّ في تركيا بعدما أغلقت الدوحة أبوابها أمام «الإخوان المُسلمين».
وفي ضوء هذه المُعطيات، يعتقد السياسي العربيّ المُخضرم، أنّ أردوغان سيجعل من جيشه القوّة البرّية للتحالف التي تُبعِد «داعش» عَن الأرض بعدَ الضربات القاسية التي تلقّتها من السماء، وهذا ما أشار إليه ضمناً رئيس أركان الجيوش الأميركيّة الجنرال مارتن ديمبسي أمس، قائلاً إنّ «الغارات الجوية، على أهمّيتها، لا تكفي، فلا بُدّ من قوّات برّية تستكمل المهمّة».
طبعاً، هذه القوّات البرّية لن تكونَ أميركيّة أساساً، لكي لا تتكرّر مأساة الأميركيّين في أفغانستان والعراق مجدّداً، ولن تكون مصريّة، حيث إنّ مصر لديها من المُشكلات ما يكفيها، وكذلك لن تكون خليجيّة، فالخليجيّون مُساهمتهم الأساسيّة هي في التمويل، وفي القصف الجَوّي. وهُنا، لا بُدّ من أحد طرفَين: إمّا الجيشَين السوري والعراقي ومعهما القوى الكرديّة، وهو ما يُرعب أنقرة، وإمّا أن تزجّ أنقرة بقوّاتها لتتفادى المصاب الأكبر.
لكنّ أردوغان يُدرك أنّ إرسال قوّات برّية إلى سوريا والعراق من دون تفاهُم مع القيادتَين في دمشق وبغداد سَيحوِّل قوّاته بطّاً عائماً في بحيرة من الألغام. فهل سيكون تغيير موقف أردوغان من التحالف بدايةً لتغيير موقفه من الأزمتَين السوريّة والعراقيّة؟ وهل نحن أمام أردوغان ـ 2 مختلف عَن أردوغان ـ 1؟