IMLebanon

ما هو أبعد من «إعلان النوايا»

يصعب على أيّ مراقب أن يسلِّم بمقولة انّ التفاهم بين «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» الذي أدرج تحت عنوان «إعلان النوايا» سببه فقط حرص الطرفين على طَيّ صفحة الماضي وتنظيم الخلاف بينهما.

الدافع وراء التفاهم القواتي-العوني يفترض أن يكون أبعد بكثير من تنظيم خلاف وإقفال صفحات ماضوية وإجراء اجتماعات تنسيقية طلابية وغيرها، خصوصاً انّ الفريقين يدركان حقيقة انّ استحضار الماضي يشد عصب جمهورهما، لا العكس، وانّ الاجتماعات التنسيقية ستبقى شكلية ومؤقتة طالما أن لا اتفاق على جوهر القضايا الوطنية بينهما. وبالتالي، السؤال الذي يطرح نفسه: ما الدافع الحقيقي وراء التقاطع القواتي-العوني؟

بالعودة زمنياً إلى الوراء يظهر بوضوح انّ التقاطع بين الطرفين حصل تحديداً بعد الإعلان عن حوار تنسيقي يجمع «المستقبل» و«حزب الله» برعاية الرئيس نبيه بري تحت عنوانين: الاستقرار وانتخاب رئيس جديد للجمهورية.

فاعتقدَ العماد ميشال عون، على ما يبدو، انّ ثمة إشارة إقليمية إلى ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية في تكرار لِما حصل في الدوحة، ولم يجد من وسيلة لتحصين وضعه في حال اضطرار الحزب للتجاوب مع الرغبة الإيرانية سوى في الانفتاح على الدكتور سمير جعجع من أجل حَجب الغطاء المسيحي عن أيّ تسوية من هذا النوع، حيث يصعب موضوعياً انتخاب رئيس في ظل فيتو قواتي-عوني مشترك، فيما الأمر يختلف في حال مَنح أيّ منهما تغطيته لتفاهم رئاسي مفترض.

فعلى رغم التحالف الوثيق بين «حزب الله» وعون، والذي استفاد منه الأخير في محطات عدة، إلّا انّ التجربة أثبتت له انّ دعم الحزب مضمون طالما أولويتهما واحدة، وخلاف ذلك كلّ يذهب في طريقه على غرار ما حصل في اتفاق الدوحة والتمديد النيابي الأول والثاني والتمديد العسكري الأول. وبالتالي، لا شيء يضمن ثبات الحزب في موقفه الرئاسي الداعم له، ولذلك لا بدّ من بدائل تُبقي فرصته الرئاسية، خصوصاً في حال بروز تقاطع سعودي-إيراني على انتخاب رئيس جديد.

وفي المقابل يجد جعجع نفسه مستفيداً من رغبة عون في التقاطع، خصوصاً في ظل قناعته انّ المعطِّل الفعلي للانتخابات الرئاسية هو «حزب الله» الذي يستغلّ تمسّك عون بترشيحه ليُبقي الرئاسة الأولى بنداً تفاوضياً بيد طهران.

ولكنّ مصلحته في التقاطع تكمن أيضاً وتحديداً من عدم وثوقه تماماً بما قد يذهب إليه حليفه الذي ذهب إلى خيار الرئيس ميشال سليمان من دون التشاور معه، وقرّر العودة إلى منطق المساكنة مع «حزب الله» في حكومة الرئيس تمام سلام من دون الأخذ في الاعتبار موقفه المُذكّي لخيار حكومات التكنوقراط، ولم يستمهل التأليف بانتظار ان يعدّل في موقفه على غرار ما يفعل الحزب مع عون في تشكيل الحكومات.

وما ينطبق على الحكومة ينسحب على الحوار أيضاً، حيث اتخذ الموقف بالمشاركة منفرداً على رغم الاتفاق مسبقاً بالتشاور والتنسيق قبل اتخاذ أي موقف. وبالتالي، استناداً إلى التجارب السابقة لا شيء يضمن لجعجع أيضاً ان لا يُصار الى تفاهم على مرشّح من دون الوقوف على رأيه.

وعلى هذا الأساس مبدئياً حصل التقاطع العوني-القواتي، حيث يضمن عون ان يُعطِّل مسيحياً أيّ تفاهم يُبعده عن الرئاسة في حال اضطرار «حزب الله» الى التجاوب مع الرغبة الإيرانية، فيما يضمن جعجع أن يعطِّل التفاهم الإسلامي-الإسلامي على أيّ مرشح لا تنسجم مواصفاته مع تطلعات رئيس «القوات» السياسية، ولكن مع فارق انّ إدخال جعجع كشريك في تسمية الرئيس المقبل يؤدي الى افتراقه موضوعياً عن عون في هذا الملف، لأنّ هدفه انتخاب رئيس يجسّد موازين القوى ومواصفات المرحلة في ظل استحالة وصوله ووصول عون الى الرئاسة الأولى، بينما رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» يرفض أيّ تفاهم يُبعده شخصياً عن الرئاسة.

وفي موازاة هذا الملف، يشكّل قانون الانتخاب عنواناً آخر للتقاطع العوني-القواتي، حيث يعطي جعجع أولوية قصوى لهذا العنوان الذي يعيد الاعتبار للميثاق الوطني من خلال تصحيح التمثيل المسيحي وتجسيد الشراكة المسيحية-الإسلامية، خصوصاً في ظل لَمسه لمس اليد عدم إعطاء الشركاء في الوطن الأهمية اللازمة لقانون انتخاب جديد، الأمر الذي دفعه ولَو بشكل غير مباشر إلى التلويح بالتحالف مع عون انتخابياً لتصحيح التمثيل واقعياً في حال الإستمرار في سياسه الاستهتار نفسها.

وأمّا عون فيجد في التحالف مع جعجع انتخابياً أحد الخيارات التي يحافظ فيها على تمثيله المسيحي، عوضاً من الدخول في منازلة غير مضمونة النتائج مع «القوات» في ظل ارتفاع منسوب تمثيلها ودخول «التيار الحر» في مرحلة انتقالية.

ويشكّل التقاطع القواتي-العوني أوضحَ رسالة إلى حليفيهما بأنّ الخيارات البديلة متوافرة، وأنّ سلاح الفيتو الرئاسي جاهز ليعطّل أيّ تسوية رئاسية على حسابهما، كما سلاح التحالف الانتخابي جاهز في حال عدم الأخذ بمطلبهما إقرار قانون انتخاب جديد يكرّس روحية الصيغة اللبنانية القائمة على مبدأ الشراكة الفعلية المسيحية-الإسلامية. ويبقى السؤال: هل مَن يَتّعِظ قبل فوات الأوان؟