ليس أقل من ثورة هذا الذي يجري في تركيا. إنها عملية تطهير كاملة للبلد وتنظيف لمؤسساته العسكرية والأمنية والإدارية والتعليمية والإعلامية من كل من لا يدينون بالولاء لرجب طيب أردوغان، واستبدالهم بأشخاص آخرين محسوبين عليه. الرقم الذي يتم تداوله لمن جرى عزلهم من هذه المؤسسات رقم كبير، قد يقارب العشرة آلاف. لا يمكن أن تكون الأجهزة الأمنية في تركيا، في ظل التوتر الذي تعيشه الآن، قد تمكنت من جمع معلومات ولوائح بأسماء كل هؤلاء بين ليلة وضحاها، ما يعني أن هؤلاء الأشخاص، او أكثرهم، كانوا تحت المراقبة والمتابعة، وها هي الفرصة قد حانت للانقضاض عليهم.
«الكيان الموازي»، هي التهمة المفضلة عند اردوغان لإطلاقها بحق الموالين لخصمه فتح الله غولن. رجلان من التربة الإسلامية نفسها، لا يتعدى الخلاف بينهما طابع المنافسة الشخصية على من يرث أكثر من تركة مصطفى كمال أتاتورك. عندما وصل حزب «العدالة والتنمية» الى السلطة عام 2003 كانا معاً، ومعاً أدارا عملية الانقلاب على تركة أتاتورك داخل الجيش وسائر المؤسسات، ولأن جماعة غولن كانت الأقوى والأكثر تمولاً فقد استطاعت نشر مؤيديها داخل الجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات والمؤسسات التعليمية تحت نظر أردوغان. وكان يمكن لهذا التحالف ان يستمر لولا فضائح الفساد التي انتشرت رائحتها عام 2013 وقيل ان محسوبين على اردوغان كانوا متورطين فيها. يومها اتهم الرئيس التركي حليفه آنذاك وغريمه الحالي غولن بإطلاق الحملات ضده بقصد الانقلاب عليه، واشتعلت بين الرجلين.
غير أن الحملة التي يقودها أردوغان اليوم على غولن لا يجب أن تحجب انظارنا عن الحملة الأخرى والأهم التي يقودها اردوغان في تركيا، والتي كان غولن شريكه فيها. هذه الحملة وجدت في الانقلاب الفاشل فرصة سانحة لإكمال معركتها. لهذا قلت إنها ثورة. ذلك أن ما يطمح اليه اردوغان من خلال اجراءاته الأخيرة التي طاولت كل القطاعات هو قيام تركيا أخرى، بعد توجيه الضربة القاضية للدولة التركية التي قامت بعد هزيمة العثمانيين في اعقاب الحرب العالمية الأولى، وهي الدولة التي كانت قد بدأت تتعثر في العقد الأخير، مع بدء الاختراق الإسلامي لمؤسسات الدولة، الذي كان هو ايضاً أحد نتائج التعسف الذي مارسه الجيش في ظل الحكم العسكري الذي قاده الجنرال كنعان أفرين في مطلع الثمانينات من القرن الماضي. لقد كان من أهم ذيول تلك المرحلة ان الجيش فقد ما كان قد بقي له من هالة ايجابية بين الأتراك، وخسر بذلك قدرته على الدفاع عن النظام العلماني، الذي كان أتاتورك يعتبر أنه وظيفته الأساسية، إلى جانب الدفاع عن حدود الدولة ومصالحها.
هذه الخلفية تساعد على فهم الرفض الواسع لمحاولة الانقلاب الأخيرة، حتى من جانب أحزاب المعارضة، التي ذاقت الأمرين من حكم أردوغان، بما فيها حزب الشعب الجمهوري (أي حزب أتاتورك). لقد باتت هذه الأحزاب عاجزة عن مواجهة المد الأردوغاني داخل المجتمع التركي.
أردوغان صاحب أيديولوجيا ورؤية وليس مجرد زعيم سياسي. ومنذ نشأته في أزقة إسطنبول الفقيرة، وبدافع من تربيته الدينية، كانت له نظرة شاملة الى تركيا التي يريد قيامها على أنقاض إرث أتاتورك، وها هي فرصته قد أتت. لذلك كان يعبر عن حقيقة ما يشعر به عندما اعتبر الانقلاب الأخير «هدية» جاءته من الله، لتحقيق فرصته هذه. فما يعكف عليه الرئيس التركي اليوم ليس أقل من تغيير سياسي واجتماعي كامل، سوف يفعل بالإرث العلماني في تركيا ما فعله الخميني بإرث الشاه في ايران.
قد يتوقف بعضهم عند التغييرات السياسية والحكومية الجارية في تركيا اليوم. غير أن الأثر الأعمق على المدى البعيد سوف يكون للتغييرات في القطاع الأكاديمي، في المدارس والجامعات، كما في المؤسسة العسكرية. فبالسيطرة على عقول شباب الغد، وبالإمساك بتعيين القادة المسؤولين عن حمايتهم، يعتقد أردوغان بأنه ضمن المستقبل الذي يريده لتركيا.