يبلغ الصيام من السمو والرفعة أنّ خصَّه الله تعالى لنفسه، فقال: الصوم لي، وأنا أجزي به. فهذا الشهر يُدخِلنا في رحاب الضيافة الربانية التي تلزمنا أن نكون عند حسن ظن ربنا بنا من أهل الخير والصلاح الذين يستحقون هذا التكريم الإلهي، ما يحتم أن نجعل من تقوى الله سمة ملازمة لنا، فنخلص في العبادة والعمل، ونسير في خط الهداية والرشاد، ونلتزم الاستقامة في القول والفعل والسلوك.
وأولى واجباتنا في هذا الشهر، أنْ نجدّد إيماننا وعهدنا مع الله، فنعتصم بحبله، ونتعلّم من الصوم الصبر والإرادة والعزيمة، وتبصّر الخير، والسير في نهج الاعتدال والحق، وبصومنا ننتفض على أهوائنا وشهواتنا، ونروّض أنفسنا ونصقلها، ليكون هذا الشهر مدرسة للصلاح والفلاح، فنقتدي بالأنبياء والأولياء والصالحين، ونتعلّم من رسول الله وأئمة أهل البيت الخشوع في العبادة، والإخلاص في العمل وحسن التعامل مع الآخرين، لنكون من خيرة عباد الله الصالحين، فنبادر إلى تقديم التوبة، ونكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم، والصلاة، والاجتهاد في العبادة وأفعال البِرّ والإحسان إلى المحتاجين والمحرومين.
ولنتذكّر ما قاله خاتم النبيين (ص) في استقبال شهر رمضان: «أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فسلوا الله ربكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة، أنْ يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنَّ الشقي من حُرِمَ غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم، فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقّروا كباركم وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحنّنوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم.
ونحن إذ نطالب المؤمنين أنْ يغتنموا فيوضات الرحمة الإلهية، فيصلون أرحامهم، ويتحلّون بمكارم الأخلاق ومرضي الأفعال، فإنّنا نخص الأغنياء منهم ليقوموا بواجباتهم في مساعدة أصحاب الحاجة، ومد يد العون لهم، من منطلق أنّ هذه المساعدة باب من أبواب التقرّب إلى الله، ونطالب الحكومة اللبنانية بأنْ تضع مصلحة المواطنين الفقراء وأصحاب الدخل الأدنى والمتوسّط في أولويات اهتماماتها، فلا تخفّض رواتبهم وتزيد من تقديماتها الاجتماعية، ليحظى اللبنانيون بالعيش الكريم في بلدهم، فتحسّن رعايتها للمحتاجين من أبنائها، وتستعيد أموالها المنهوبة من جيوب المرتشين والفاسدين والمعتدين على المال العام وناهبيه، وتُعيد الاعتبار للمؤسّسات الرقابية والقضائية، من خلال إطلاق يدها في المحاسبة والمعاقبة، ورفع الغطاء عن كل فاسدٍ ومرتشٍ، لأنّنا نريد إنقاذ اقتصادنا الوطني من شبح الانهيار، باستعادة الحقوق من سارقيها، وفي المقابل نرفض المس بحقوق الفقراء والمرضى والمساكين والعمّال الكادحين، ونحمّل الدولة مسؤولية التفاوت الكبير بين رواتب مؤسّساتها، الذي بات يشكّل فضيحة كبرى ينبغي تداركها، إذ لا يُعقل أنْ تتجاوز بعض الرواتب أضعاف مثيلاتها في الدول الغنية، فيما يعاني بلدنا العجز والمديونية.
أيها الاخوة، وفي رحاب الضيافة الربانية والنهل من الفيوضات الرحمانية، يستحضرنا كلام رسول الله في استقبال شهر الرحمة حين قال: أيها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخفّفوا عنها بطول سجودكم. وتوبوا إليه من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم، فإنّها أفضل الساعات ينظر الله فيها عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.
نهنّئ المسلمين واللبنانيين بحلول شهر الله، ونبتهل إليه تعالى أنْ يجمع كلمتهم على التوحيد والتقوى والمحبة، ليكون هذا الشهر محطة إيمانية يجدّدون فيها طاعتهم لله سبحانه، ويؤكدون وحدتهم وتعاونهم وتضامنهم لما فيه خير البلاد والعباد. ونسأله سبحانه أنْ يتقبّل صيام الصائمين ودعاءهم وصلاتهم، ويسدّد خطاهم، ويوفقهم لكل خير.
* رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى