لا تختلف جولة العنف الأخيرة في “عين الحلوة” عن سابقاتها، لجهة أنها تعبير عن استمرار غياب أيّ ضوابط سياسية أو أمنية يُعتدّ بها لمنع انفجار الأمن في المخيم. لكنّ الجولة الجديدة سلّطت الضوء أكثر على مدى الارتباط الوثيق لحبل الهدوء والتوتر في المخيم بعوامل الصراع الخارجي ذي الصِّلة بالملف الفلسطيني.
بدأ التوتر في المخيم الذي مهّد لجولة العنف الجديدة، منذ إعلان نية “أبو مازن” زيارة لبنان. مرّت هذه الزيارة بجدول تحضيرات اعتمد في البداية موعدين افتراضيين لحصولها، ولم تعرف أسباب ذلك.
وقبَيل بدء زيارته بأيام، حدثت جولة عنف أشّرَت الى وجود جهات فلسطينية تريد التشويش على صفة “ابو مازن” كمرجعية للحل والربط لفلسطينيي الداخل والشتات.
ولكنّ شرارة الانفجار الرئيسة التي سببت اندلاع جولة العنف الحالية بدأت، بحسب مصادر مطلعة، عندما أعلن في المخيم، في التوقيت نفسه لبدء زيارات “ابو مازن” للمسؤولين اللبنانيين، عن وصول جليلة دحلان زوجة القيادي الفتحاوي “المطرود” محمد دحلان، الى المخيم، في زيارة لتوزيع مساعدات إنسانية للاجئيه.
سبق لجليلة أن زارت المخيم غير مرة في السابق، ووزّعت فيه إعانات باسم زوجها الذي فَصله عباس من “فتح”، وباتَ يعتبر أبرز منافسيه على قيادة فتح ورئاسة السلطة الفلسطينية. خلال المؤتمر العام الأخير لـ”فتح” المنعقد قبل أسابيع، حاولت الرياض والقاهرة والإمارات (ضمن المجموعة الرباعية العربية مع الأردن) إقناع عباس بإعادة دحلان والسماح بانتخابه ضمن قيادة “فتح” الجديدة.
أصرّ عباس على رفض المقترح ما أدى الى حدوث قطيعة بينه وبين هذه الدول. وفي حين عادت علاقاته الى مجاريها مع السعودية بعد المؤتمر، فإنها زادت سوءاً مع مصر بفِعل مآخذ عباس على تعاظم دعم القاهرة لدحلان، وتوجّسه من مبادرتها الاخيرة للانفتاح على “حماس”، في حين استفزّ عباس مصر بفعل زيارته الدوحة.
مجمل هذه التطورات ذات الصِّلة بخلاف عباس مع دحلان وتداعياته الاقليمية، وجدت استكمالاً لها في مخيم عين الحلوة، وذلك خلال زيارة الرئيس الفلسطيني بيروت. فداخل المخيم اعتبر جناح “فتح” – رام الله انّ توقيت دحلان لزيارة زوجته جليلة المخيم يتضمن رسالة تحدّ منه ومن داعميه الى عباس.
وتجدر الإشارة الى أنه داخل جسم “فتح” في المخيم هناك جناح فتحاوي مؤيّد لدحلان ويتزعّمه “اللينو” الذي سبق لأبي مازن أن طرده من “فتح” ثم أعيد اليها من دون معالجة أسباب المشكلة. وقد احتضن “اللينو” كعادته حركة جليلة بمناسبة زياراتها الاخيرة الى المخيم، وسهّل لها عملية التواصل وتوزيع مساعدات زوجها للاجئي المخيم.
واعتبر جناح “فتح” – رام الله أنّ زيارة جليلة هذه المرة تجاوزت الخطوط الحمر، كونها تنطوي على توجيه رسالة تشويش على زيارة ابو مازن للبنان، وإظهار دحلان أنه ممثّل معادلة فلسطينيي الشتات بدليل وجود زوجته في المخيم المسمّى بعاصمة الشتات، في حين أنّ الرئيس الفلسطيني لا يتجرّأ حتى على زيارته.
وخلق هذا التفسير لزيارة جليلة نوعاً من التوتر والإرباك داخل الساحة الفتحاوية المتشرذمة أصلاً، والمنقسمة بعضها على بعض. وبنظر التقدير الأمني حول الاسباب المباشرة لاندلاع جولة العنف الاخيرة، أنّ المجموعات الاسلامية المتطرفة حاولت تغذية هذا التوتر داخل “فتح”، على أمل ان يتحول اشتباكات مسلحة بين “فتح” – دحلان و”فتح” – عباس، فافتعلت إطلاق نار وحوادث أرادت منها صبّ زيت التوتر على الخلاف الفتحاوي، لكنّ سياق تطورات الميدان عاد ليستقر عند مشهده التقليدي المتمثّل كما كل مرة باندلاع الاقتتال بين حي البركسات حيث “فتح” وبين حي الصفصاف حيث المجموعات الاسلامية المتشددة.
وعلى رغم انّ خطة المتطرفين لجعل الاقتتال فتحاوي – فتحاوي لم تنجح، لكنّ حصيلة جولة العنف بغضّ النظر عن تسميات طرفيها، اوصلت الرسالة التي يريدها أكثر من طرف في المخيم وخارجه، ومفادها انّ عباس ليس صاحب الربط والحل في ملف الشتات الفلسطيني.
كان لافتاً تعمّد استقبال عباس بتفجير الوضع الامني في المخيم، وكان لافتاً أكثر الحرص عند مغادرته لبنان على تسريب معلومة كاذبة ودّعته حتى المطار، وتحدثت عن تعرّض موكبه لإطلاق نار. وكل هذه مؤشرات تؤكد انّ جولة العنف الراهنة في عين الحلوة غرضها توجيه رسالة لعباس ولمضيفه اللبناني ولكلّ من راقب زيارته، مفادها انّ “المخيم – عاصمة الشتات الفلسطيني” خارج نطاق قرار رام الله.
والواقع أنه منذ زمن ياسر عرفات، يعتبر “ابو مازن” المسؤول الفلسطيني الأقل شعبية بين فلسطينيي الشتات؛ فهو خلال مرحلة إقامة منظمة التحرير في لبنان كان ينظر اليه داخل “فتح” على أنه يمثّل جناحها اليميني، أمّا “يسار” الطيف السياسي الفلسطيني فنظر اليه بوَصفه “حصان” التسوية الأميركية للقضية الفلسطينية التي لا يوجد لِحقّ العودة مساحة فيها.
طبعاً، لا يمكن الركون كثيراً لأدبيات الاتهامات التي كانت تسود أجنحة الثورة الفلسطينية خلال مرحلة إقامتها في لبنان (١٩٧١-١٩٨٣)، ومع ذلك لا يمكن نفي انعكاساتها على نظرة فلسطينيي الشتات لشخصية “ابو مازن”.
وواقع حال سلوك “ابو مازن” منذ دخل مقر الرئاسة في رام الله، يؤكد انه غير متمسّك بتعبير عين الحلوة على النحو الذي كان سائداً لدى عرفات او غيره من قادة فصائل الثورة الفلسطينية؛ أي استخدامه كمنصّة عسكرية وسياسية وإعلامية لإدارة حرب إرادات سياسية من خلاله مع الإقليميين. يؤمن “ابو مازن” أنّ المخيم، بظروفه الاقتصادية والامنية والسياسية الراهنة، هو عبء على “سلطة” رام الله، وأنّ الحل يكمن في بسط سلطة الدولة اللبنانية عليه.
وهو كرّر هذا المعنى أمام المسؤولين اللبنانيين خلال زيارته الاخيرة، خصوصاً أنه بات متيقّناً انّ ساحة عين الحلوة لم تعد ورقة عسكرية او سياسية في يد “فتح”، بل أصبحت ساحة يمكن استخدامها من إقليميين لضرب موقعه داخل زعامة “فتح” لمصلحة محمد دحلان المدعوم من إقليميين؛ او حتى من “حماس” وإسلاميين آخرين لضرب موقع “فتح” داخل المعادلة الفلسطينية كلها.
وبقناعة “ابو مازن” فإنّ حليف “فتح” – رام الله في عين الحلوة، ضمن هذه الظروف المستجدة، هو حصراً وموضوعياً الدولة اللبنانية. ولذلك يحاول إدخالها الى معادلة المخيم من باب أنّ تنظيم أموره الامنية والسياسية يجب ان يتم من خلال علاقة دولة لبنان مع دولة فلسطين، وليس من خلال علاقة بيروت مع معادلات المخيم الفلسطينية الميدانية.
ربما هذه النظرة للحل في عين الحلوة تعمّقت أكثر لدى “ابو مازن” بعد زيارته الاخيرة للبنان، نتيجة انّ أطرافاً في المخيم حرصت على ان تواكبها بتفجير الوضع الامني فيه، وكأنها تقول لأبي مازن: “لست صاحب القرار في عين الحلوة”، وللدولة اللبنانية: “لا تفاوضوه لأنه لا يملك الأمرة على توازنات الأرض في عاصمة الشتات الفلسطيني”.
ولعل أبرز الاستنتاجات المهمة التي يمكن استخراجها من جولة العنف الاخيرة في المخيم، هي ثلاثة:
أوّلها، أنّ جولات العنف في المخيم ليست مجرد نقص في مناعته الامنية ونتيجة لتدني حِس المسؤولية لدى فصائله، بل هي استجابة لصراعات الخارج، ورسائل يطيّرها من عين الحلوة المنخرطون في الصراع على الملف الفلسطيني، سواء ببُعده الفلسطيني الداخلي او الاقليمي او الدولي.
الاستنتاج الثاني، هو انّ وراء حالة التسخين الامني التي يعيشها مخيم عين الحلوة، خطة مُمَرحلة تريد الوصول الى الانفجار الكبير لتحقيق اهداف سياسية كبرى، يظلّ أهمها ” قتل” عين الحلوة – المخيم الذي له رمزية “الشاهد الفلسطيني” على قضية اللجوء وتنفيذ قرار مجلس الأمن عن “حق العودة”.
فعلى رغم انّ مساحة عين الحلوة لا تتعدى الـ٢ كلم2 لكنه يعتبر “عاصمة الشتات الفلسطيني” نظراً لرمزيته السياسية ولكونه دَرج على استيعاب نزوح اللاجئين الفلسطينيين من البلدان العربية إليه: من الاردن بعد العام ١٩٧٠، ومن سوريا منذ العام ٢٠١١.
الإستنتاج الثالث، يتمثّل في أنّ جولة العنف الاخيرة تصاحَبت كما الجولات السابقة لها مع حدوث حركة نزوح مدني للاجئين من المخيم الى خارجه أثناء اندلاع الاشتباكات. إنّ تكرار حركة النزوح الفلسطيني من المخيم المترافق مع افكار من نوع تفريغه من سكانه كمقدمة للقضاء على المجموعات الارهابية بداخله، يُضمر هدفاً خفياً وهو تهجير المخيم تحت شعار تأمين سلامة سكانه قبل ضرب الارهابيين داخله.
ومثل هذه الخطوة تعني أسرع وصفة للتوطين. فالفلسطينيون اللاجئون في لبنان من دون مخيم عين الحلوة لا يعودون لاجئين، بل يصبحون مواطنين تنقصهم هويات لبنانية، بحسب ما عبّر الصحافي العسكري الإسرائيلي المختصّ زئيف شيف، في إحدى مقالاته.