إذا كان القضاء على تنظيم «داعش» هو الأولوية اليوم، قولاً وفعلاً، فإنه لن يتم إلا في سورية، وهذا يتطلّب مبادرات من الأطراف كافة (النظام والمعارضة واللاعبين الخارجيين) لإحداث تغيير ملموس في طبيعة الأزمة ومعطياتها، وإلا فإن «داعش» باقٍ لفترة طويلة مقبلة، على غرار حركة «طالبان» بعد ثلاثة عشر عاماً على إسقاط نظامها.
وإذا كان القضاء على ظاهرة الإرهاب هدفاً استراتيجياً، قولاً وفعلاً، فإنه يحتاج – عدا الجهد العسكري – إلى مراجعات وإصلاحات عميقة على مستويين، وإلا فإن الإرهاب سيستمر، وبزخم متصاعد، وسيكون محقّاً عندئذ القول إن الإرهاب وُجد أصلاً بإرادات دولية، ولد هامشياً ومحدوداً ثم تحوّل إلى وحش كاسر، ولو أنه بقي في «بيئته» يقتل أهله ولم يبلغ بعض ضرباته نيويورك ولندن ولم يذبح بعض سكاكينه أميركيين وبريطانيين لما أثار أي اهتمام.
أما المستوى الأول لتغيير السياسات فهو دولي (أميركي – أوروبي) يبدأ بترويض «إرهاب الدولة» الإسرائيلي وتفعيل حلٍّ للقضية الفلسطينية، بالتزامن مع كبح جماح «تصدير الثورة» الإيراني وإظهار حدود واضحة لجشع إيران وأوهامها «الامبراطورية». ذاك أن «ألاعيب الأمم» التي تمارسها القوى الدولية انتجت سياسات عقيمة تقودها عقلية منتجي السلاح وتجاره وسماسرته (الصفقات في أفضل أيامها حالياً)، لكنها انتهت عملياً إلى هذا الإرهاب المنفلت الذي يغيّر خرائط ويقوّض دولاً ومجتمعات ويقتلع الأقليات ويبيع السبايا.
وأما المستوى الآخر للمراجعات فهو عربي (ـ إسلامي) يلزم الحكومات بحال طوارئ سياسية (تأخّرت كثيراً) مرافقة للطوارئ الأمنية، وبالخروج من نمط التفكير السائد لأن الخطر الداهم يهدد الدول ومرتكزاتها، ليس فقط بسبب حفنة من الموتورين والضالين بل لأن هؤلاء الإرهابيين هم أولاً وأخيراً نتاج ما رأوه وسمعوه وعاشوه فأصبحوا ما هم عليه الآن عاراً تاريخياً فظيعاً على أوطانهم وأمّتهم ودينهم. قد يعتبر هذا الحكم أو ذاك أنه لم يخطئ لكن الواقع «الداعشي» بات أقوى من حسن النيات، وينبغي إحكام البصيرة لاستشراف «داعشٍ» ما كامنٍ في دواخل كثيرين لم يمسّهم جنون العنف بعد. فلا بدّ إذاً من توضيح العلاقة بين الحكم والمجتمع، بقوننة ما فيها من حريات وحقوق وواجبات. ولا بد أيضاً من أن تعمد المؤسسة الدينية إلى إعادة نظر في ما فعله رهط من رجالها بالدين حين ضيّقوا أفقه وبالمؤسسة نفسها حين امتهنوا الدين وجعلوه تارةً شعاراً لتعاطي السياسة وطوراً أداةً لسلطة لم يمنحها لهم أحد لكنهم يتوسّعون في ممارستها متدخلين في كل المجالات، وخصوصاً أخطرها – مناهج التعليم وصناعة العقول.
هل صحيح أن كل ما يهم الولايات المتحدة في مسألة الإرهاب أنها دُعيت بإلحاح إلى قيادة مواجهته من جانب الحكومات، وأنها تستجيب بوتيرة انتظارية ريثما تتضح أمامها صورة شاملة للمكاسب التي يمكن أن تحصّلها، وأن باراك أوباما ليس واثقاً بمؤدّى «الحرب على داعش» لذا يحرص دائماً على خفض التوقعات بالنسبة إلى النتائج والمدى الزمني للحرب؟ إذا صحّ ذلك فهو يعني أن أميركا لم تحسم بعد إذا كانت لها مصلحتها في القضاء على الإرهاب أم في استمراره كوسيلة ناجعة لمواصلة الابتزاز من أجل هدف نبيل قد لا يتحقق أبداً. لماذا؟ لأنه يحتّم عليها اعتماد سياسات ذات صدقية ونزاهة، وهو ما لم تعتد عليها. ولأنها مدعوة، في حال «داعش»، إلى إنهاء ظاهرة ساهمت في إنتاجها بالمظالم التي وقعت في سياق احتلالها للعراق، ثم بالجرائم التي أتاحت لنظام بشار الأسد بارتكابها ضد الشعب السوري من دون مساءلة ولا محاسبة، وقبل ذلك بحماية الاحتلال الإسرائيلي ونهجه العدواني والإحرامي حيال الشعب الفلسطيني…
لا يعني ذلك سعياً إلى تبرير مبتسر للإرهاب أو إلى تسويغه بمهمات قومية أو دينية، فليس هناك عاقل يمكن أن يراهن على الإرهاب، لكنه لم يأتِ من فراغ ولا من غيب، ولم يعد مجدياً تصويره على أنه وهم طالما أنه أصبح واقعاً بل واقعاً مفزعاً إلى حد أن التئام عشرات الدول لمواجهته لا يكفي لإثناء الراغبين في الالتحاق به. وقد ورد في الأنباء أن آلافاً جدداً من الشبان انضموا إليه منذ بدأ يتلقّى الضربات الجوية، على رغم وجود قرار دولي يلزم الدول كافةً بمنع الوصول إلى مناطقه. صحيح أن لظواهر العنف والتطرّف أسباباً محلية أولاً، سياسية – اجتماعية، لكن الصحيح أيضاً أنها تداخلت مع أسباب خارجية لا تزال تحول دون أي تغيير إيجابي على مستوى المنطقة. ثمة أجيال عربية تعاقبت وكان عليها أن تخضع للقهر والاستبداد مع هذا النظام أو ذاك بالتوازي مع الضغط الإسرائيلي – الأميركي على الفلسطينيين للتعايش مع الاحتلال بما فيه من قهر واستبداد وسرقة للأرض ولأبسط الحقوق الإنسانية. حتى «الربيع العربي» بما رسمه من آفاق لتغيير من الداخل ما لبثت آماله أن تدهورت بتفاعل مريب بين قصور قوى الداخل وتدخل قوى الخارج، لتنزلق الأحوال تدريجاً إلى مواجهات بين عسكر محلي (أو أميركي) وإرهابيين كما لو أنها اللعبة الوحيدة المتاحة، أو كأن «التغيير» الواقعي الممكن هو من «القاعدة» إلى «داعش»، ومن هذا الأخير إلى ما هو أشد ظلاميةً ووحشيةً.
لماذا لا تعتبر الولايات المتحدة نفسها ملزمة بتوضيح نياتها في «الحرب على داعش»، فأي حرب ذات طابع قسري اضطراري تحمل في طياتها وعداً بأن ما بعدها يمكن أن يكون أفضل، أما هذه الحرب فلا تبدو كذلك على رغم أنها تتعامل مع واقع عربي – شرق أوسطي بالغ القتامة وليس فقط بسبب «داعش» بل بما أتاح له أن يوجد. لا شيء يوحي بأن واشنطن ستتوقف عن لعب إسرائيل ضد إيران وهذه ضد تلك، أو عن لعب إيران وإسرائيل و»داعش» كـ «فزّاعات» لعرب الخليج والشرق الأوسط، بل أن مصالحها تبدو مطابقة لمصالح الإسرائيليين والإيرانيين الساعين إلى إدامة الخلل والفوضى الحاصلين في المنطقة، سواء بتعميق الوعكة العربية وبالحؤول دون تعافٍ تدريجي للوضع الاستراتيجي العربي.
ثمة ثغرات كثيرة في استراتيجية «الحرب على داعش»، ولعل أكبرها وأخطرها اثنان: الأولى أن الولايات المتحدة وشركاءها في «التحالف» لم يحددوا العناصر والمعايير المطلوبة لـ «استقرار» المنطقة بعد الحرب، والأخرى أنهم يذهبون إلى قتال «داعش» تاركين لنظام الأسد وإسرائيل ولإيران وميليشياتها العراقية خيارات التشويش على أهداف الحرب، فالإسرائيليون يتغوّلون أكثر فأكثر في الاستيطان وحتى العبث بحقوق العبادة، والإيرانيون يمسكون بخيوط النظامين السوري والعراقي ويتحكّمون بتوجّهاتهما. ومن الواضح أنه ينبغي الشروع في حل للأزمة الداخلية في سورية لكي تنجح الحرب فيها. وهو ما تسعى تركيا إلى تسويقه باقتراحَي «المنطقة العازلة» و«ضرب النظام» من دون جدوى، كما يحاول المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا تلمّسه فيطرح حيناً تجميداً للوضع العسكري وحيناً آخر أفكاراً لإحياء «الحل السياسي»، ولا يبدو أيٌ من الأطراف معنياً بها. لكن الحاجة إلى مثل هذا التحرك ستشتدّ عما قريب، لأن ترك الصراع دائراً ببراميل النظام بموازاة الحرب على الإرهاب سيكون بالضرورة لمصلحة «داعش»، والأسوأ أنه قد يتيح عقد تحالف الضرورة بين النظام و«داعش».