Site icon IMLebanon

ما المطلوب من الحراك؟

منَظّرو الحراك يهزأون من مقولة ترحيل ملفات الفساد والإصلاح إلى ما بعد الانتهاء من سلاح «حزب الله»، ويعتبرون أنّ هذا الربط لا يختلف عن ربط محور الممانعة تحقيق السلام بزوال دولة إسرائيل.

الفارق الأساس بين 14 آذار ومحور الممانعة هو تسليمها بالأمر الواقع ورضوخها لاستحالة التغيير في ظل السلاح واستقواء الدويلة على الدولة، خصوصاً أنّها تتكئ في تجربتها على مراحل الحرب والوصاية السورية وسلاح «حزب الله، حيث تتعذر المحاسبة في هذه الظروف الاستثنائية، فيما فريق الممانعة يتحجّج عن سابق تصوّر وتصميم بالأوضاع الاستثنائية من أجل تجميد الوضع السياسي والتهويل على الرأي العام بالمخاطر الوجودية التي تستدعي تمجيد السلاح غير الشرعي وخنق الديموقراطية.

فالمقارنة بين الاثنين تشكّل ظلماً كبيراً لقوى 14 آذار، ولكن هذا لا يعفيها من مسؤولية أنها رضخت للأمر الواقع الذي فتح الباب أمام نشوء واقع سياسي جديد لم يعد ممكناً تجاهله، خصوصاً أنّه نجَح بفرض إيقاعه، الأمر الذي يتطلب منها المبادرة إلى ملاقاته، ولكن بأدبياتها وسقفها الوطني.

فبدلاً من ان تترك قوى 14 آذار الحراك ورقة بيَد «حزب الله» يستخدمها في توقيته المناسب، عليها تلقّفه أو محاولة إيجاد مساحة مشتركة معه، فإذا فشلت نتيجة أجندة هذا الحراك تكون اللهمّ قد حاولت ولا يستطيع أحد أن يأخذ عليها إقفالَ الباب على هذا المستوى، وفي حال نجَحت يمكن آنذاك إطلاق دينامية جديدة في البلد تصبّ في مشروع «العبور إلى الدولة» الذي تعمل له، ولكن ذلك يشترط الآتي:

أوّلاً، إذا كان تجميد البلد بانتظار الانتهاء من سلاح «حزب الله» غير واقعي، فإنّه من غير الواقعي أيضاً الكلام عن إسقاط النظام السياسي، ليس فقط لأنّ المستفيد الأكبر سيكون الحزب كونه الأكثر قدرة على فرض شروطه، بل لأنّ هذا النظام رافقَ قيام لبنان الكبير مروراً بجمهورية ميثاق العام 1943 وصولاً إلى جمهورية الطائف، والمشكلة ليست في طبيعة هذا النظام، إنّما بعدم تطبيق نصوصه وآلياته بفعل السلاح.

فهو إن كان لا يعمل، فبسبَب التطبيق الاستنسابي الذي فرَضه النظام السوري ومن ثمّ «حزب الله»، وبالتالي أيّ نظام جديد سيواجه نفسَ المشكلة في حال استمرار السلاح غير الشرعي.

ثانياً، الكلام عن إسقاط النظام من دون الكلام عن البديل يشكّل نقزة ونقلة نحو المجهول، فضلاً عن انّ التغيير الجذري غير ممكن، وبالتالي الحراك مطالَب بتحديد رؤيته الوطنية وأجندته السياسية، خصوصاً أنّه في غير وارد إيقاف نشاطه مع انتهاء ملف النفايات، حيث كلّ المؤشرات تؤكّد انّه يتّجه الى تطوير أسلوب عملِه.

ثالثاً، من حق الحراك ان يكون له حيثيته واستقلاليته وشخصيته، ولكن ليس من حقّه ان يلغي الآخرين، وبالتالي شعار إسقاط الطبقة السياسية لا يصحّ إلّا في صناديق الاقتراع، وإلّا يصنّف في الخانة الانقلابية، فيما يُفترَض أن يكون الحراك حركة ديموقراطية لا إلغائية، كما أنّ معظم رموز هذه الطبقة لديهم التمثيل الفعلي داخل بيئتهم، وبالتالي كلّ من يريد الإطاحة بالطبقة السياسية هو كمن يريد الإطاحة بالطوائف.

رابعاً، لا يجوز أن يعيد الحراك النقاشَ إلى المربّع الأول المتصل بالعلمنة وإلغاء الطائفية السياسية، لأنّ اتفاق الطائف قدّم الحل المناسب من خلال الفصل بين مجلس نيابي محرّر من القيد الطائفي، ومجلس شيوخ يجسّد البعد الطائفي، فضلاً عن أنّ الانزلاق في هذا النقاش كفيلٌ لوحدِه بالإطاحة بالحراك، لأنّ أيّ نظام يجب ان يعكس طبيعة المجتمع وصورتَه، كما أنّ الطائف نجح بالتوفيق بين البعدَين المدني والطائفي، على غرار انتفاضة الاستقلال التي نجَحت في مصالحة المسيحيين مع عروبتهم والمسلمين مع لبنانيتهم، وبالتالي لا يجوز عند كلّ مفصل تجديد النقاش في الأساسيات والبديهيات.

خامساً، لا يمكن ان ينجح هذا الحراك وأيّ حراك يصوّر نفسَه بأنه موضوعي، فيما يتعامل بفئوية واستنسابية من خلال تركيزه على فريق واحد من اللبنانيين، ما يخَلّف انطباعاً بأنّه ينفّذ أجندة الفريق المقابل، ومن هنا أهمّية ان يكون على مسافة واحدة من الجميع، وأن يتمّ وضع «زيح» للمرحلة السابقة، وفتح صفحة جديدة تحت عنوان ورشة إصلاحية شاملة ومفتوحة، وفضحِ كلّ مَن يعرقل هذه المسيرة.

سادساً، إذا أمكنَ الكلام عن نجاح حقّقه الحراك، فهو عائد لعناوينه المطلبية لا السياسية، وبالتالي من مصلحته ومصلحة اللبنانيين ان ينأى بنفسه عن الصراع السياسي، وأن يحصر تركيزه بالشقّ المطلبي، وأن يتعامل بموضوعية لا شخصانية مع التطورات، بمعنى إذا السلطة قدّمت الحل الأفضل في الظروف الحالية في ملف النفايات نتيجة الضغوطات التي مارسها، عليه أن يقرّ بهذا التطور، بدلاً من مواصلة الاعتراض للاعتراض.

سابعاً، إذا كان مطلوباً من القوى السياسية والرأي العام تفهّم الولادة الحديثة لهذا الحراك لناحية انّه لم يبلوِر بعد صفوفه وأفكاره، فإنّ على هذا الحراك ان يتفهّم بدوره التشكيك بخلفياته طالما لم يعلِن بعد عن أفكاره وهيئته التنظيمية، لأنّ ردود فعله على الذين سجّلوا الملاحظات على سلوكه لم تختلِف عن أنظمة القمع من خلال اللجوء إلى التخوين.

ثامناً، على هذا الحراك ان يعلن رفضَه توسّلَ العنف، وإنّ سعيَه للتغيير يكون تحت سقف الشرعية والدستور والقوانين، لأنّ الممارسة دلّت خلافَ ذلك من خلال استفزاز القوى الأمنية بغية استدراجها إلى المواجهة وصولاً إلى محاولة شلّها وتعطيلها.

تاسعاً، لقد دلّت التجربة حتى الآن إلى أنّ هذا الحراك يرفض مدَّ اليد إلى القوى السياسية، والدليل عدم تجاوبه مع دعوة البطريرك بشارة الراعي والدكتور سمير جعجع بإعطاء الأولوية للانتخابات الرئاسية التي تشَكّل مدخلاً لحلّ الأزمة السياسية، بل على العكس تقاطعَ مع أجندة الطرَف الآخر بإعطاء الأولوية للانتخابات النيابية.

عاشراً، على الحراك أن يتحلّى بالواقعية وأن لا «يَسكر» من فورة الشارع ويَعتبرَها انتصاراً تاريخياً يؤشّر إلى قدرته على قلب الطاولة على القوى الحزبية-الطائفية، لأنّ الشارع الأكبر في لبنان هو الشارع الطائفي الذي يؤيّد الإصلاح بالتأكيد، ولكنّه يرفض بتاتاً المساس بقياداته التي تشكّل مصدر اطمئنان لوجوده، وبالتالي عليه ان يتنبّه الى سقف مطالبه وحدود قدرته وأن يدفع الى التغيير على طريقة الجولات لا الضربة القاضية المستحيلة.

وفي موازاة كلّ ذلك، لا يجوز ان تبقى قوى 14 آذار في موقع المراقب على ما يحصل في الشارع، بل عليها أن تبادر الى التذكير ببرنامجها الوطني ورؤيتها الإصلاحية، وأن تشَمِّر عن زنودها وتدخل الساحَ من الباب الإصلاحي، وإذا كان هناك من يسجّل عليها مساكنتَها مع السلاح، وهذا الصحيح، إلّا أنّ الحراك لا يقارب موضوع السلاح من قريب أو بعيد، فضلاً عن أنّها كانت أوّلَ مَن حاولَ تطويق مشروع الدويلة بتوسيع رقعة مساحة الدولة، وكان آخر هذه المحاولات ترشيح الدكتور جعجع إلى الرئاسة.

وعليه، لا يمكن لقوى 14 آذار ان تنأى بنفسها عن المشهد الجديد في الحياة الوطنية اللبنانية، بل عليها أن تستفيد من حركة الشارع من أجل إدارة محرّكاتها وطرحِ أولوياتها واستعادة موقعها المتقدّم في المواجهة الوطنية.