«لولا العقول لكان أدنى ضيغم
أدنى الى شرف من الإنسان»
(المتنبي)
ليس هناك أجمل من وضعية الخطيب الملهم الذي يطل في كل المناسبات من سياسية واجتماعية ودينية ليلقي المحاضرات على مئات الألوف من الجموع التي أتت لتسمع «الحقيقة» من فمه الصادق، حتى وإن لم يصدق دائماً. يعني لا نقاش ولا حوار، بل سمع وطاعة لكل ما ينطق به، وكل من يقول العكس، أو يشكك أو حتى يناقش، هو إما خائن أو مارق أو حتى كافر. فالجماهير تحتاج عادة الى أن تخفف من حاجتها الى الجدل والنقاش والتشكيك وأن تسند ظهرها الى «الحقيقة المطلقة» دون أن تُجبر في كل مرة على ان تنظر الى الوراء لتتأكد من أن ما تستند عليه هو الحقيقة أم وهم آخر.
ما لي أنا وهذه الأفكار التضليلية، فأنا أيضاً أريد أن أستند يوماً الى حقيقة اعتبرها غير قابلة للجدل حتى أتمكن من النوم، ولكنني أجدني بطريقة غير ارادية منساقاً الى أوامر عقلي حتى أشكك وأجادل، لقناعتي بأن الحقيقة المطلقة ليست ملكاً لأي من البشر، حتى ولو أجمعت عليه البشرية بأجمعها.
في مراجعة هادئة، لا أظن أن أياً من الأحزاب اللبنانية التي تحالفت مع إسرائيل في يوم من الأيام، تحن الى هذا الزمن الذي لم يجنِ منه اللبنانيون بكل طوائفهم إلا الدمار والموت. ولا أظن أن من سند ظهره إلى الميليشيات الفلسطينية التي لا تحصى في تلك الأيام، وحتى ولو كانت حقاً لمواجهة إسرائيل، يتطلع بفخر لتلك الأيام. فكلنا حصدنا الندم وخيبات الأمل وفقدان الأحبة والرزق والبيت…
ولكن بمراجعة جدلية لوقائع الأمور نجد أنه منذ اليوم الذي فرطت الدولة بسيادتها بقبولها اتفاقية القاهرة سنة 1969، أصبحت كل الاحتمالات مفتوحة، فالواقع هو أن المنظمات الفلسطينية سعت للسيطرة على لبنان لأسباب شتى وعاثت معظمها في الأرض فساداً، لم ينجُ منه أي من اللبنانيين من كل الطوائف. وإن كانت الاحزاب المسيحية تحالفت يومها علناً مع إسرائيل، فإن عشرات الآلاف من أبناء الجنوب غير المسيحيين استقبلوا المحتل بنشر الأرز تيمناً بأفول عهد «منظمات» تحرير فلسطين المتعددة والمتضاربة، وخاصة بأفول عهد الطحالب اللبنانية التي أنبتتها هذه الحالة الشاذة، وانتشرت كالمرض السرطاني في كل حي وكل بناء، لدرجة لم يعد المواطن يومها يخاف من قذيفة عشوائية تأتي من المعسكر المعادي، بل كان يخاف من رصاصة طائشة من مسلح «وطني» محشش أو موتور.
كان المواطن يخاف لدرجة الرعب أن يدوس كرامته أو عرضه أو يستبيح ملكه تنظيم من التنظيمات «الوطنية» المتحالفة مع الثورة الفلسطينية. وهكذا كانت الحالة آنذاك على ما أظن في القسم الآخر من الوطن!
إن الخوف من الذوبان والاندثار لم يكن يومها نتيجة عقدة لدى المسيحيين، بل كان مبنياً على وقائع متعددة، جزء منها كان مصرحاً به، والآخر كان مضمراً في النيات.
فإن كانت الاحزاب المسيحية تحالفت مع إسرائيل لضمان استمرارها في السلطة، فإن الكثير من سنّة لبنان كانوا يراهنون على القوة الفلسطينية للاستيلاء على قدر أكبر من السلطة الى أن أتى الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، ومن بعدها معارك طرابلس سنة 1983 لتقضي على الأحلام السنية.
واستمر الرهان المسيحي الى أن سقط اثر حربي التحرير والإلغاء الشهيرتين سنة 1989.
أضف الى أن الآلاف من الرهانات أيضاً، ومن مختلف الطوائف، كانت قد وضعت على مبدأ الاستقواء بسلطة الوصاية، وقد سقطت، وإن جزئياً مع خروج القوات السورية سنة 2005.
هذه وقائع جديرة بالمناقشة الموضوعية لتشريح أسبابها ومحاولة تفادي الوقوع فيها مرة ثانية. ولكن السؤال المطروح الآن، وبشكل ملحّ هو ما جدوى استمرار ربط مصير لبنان بمصير إيران؟ أمن الضروري أن تنتهي التجربة الحالية لشيعة لبنان الى الكارثة حتى تتعلم كل مكونات هذا البلد أخيراً عدم جدوى الاستقواء بخارج الحدود؟ أو هل من عاقل يقبل بأن يكون جندياً في جيش تأتي أوامره من الخارج، في حين يذهب قائد ذاك الجيش العظيم صاحب المال النظيف، للمساومة تحت الطاولة أو فوقها على مصير من رهن نفسه لوهم أو أسطورة عابرة للزمن والحدود! هل من المنطق أن نستمر بالشتم وإعلان العداء لدولة أو حاكم ما، في حين يذهب قائد الجيش العقائدي الأسطوري إلى تسويات مع المشتوم؟ فله الكؤوس ولنا ثمالتها؟
اليوم وفي ظل الوضع الإقليمي الداهم، وفي الوضع الإقتصادي المترنح، ما هي جدوى الخطابات العنترية، وما المفيد في إعلان الكره لمن نطلب مد يد العون منهم؟
إن كان هناك حاجة للمناقشة الهادئة فالأجدر اليوم البحث في كيفية منع الخطر الداهم الذي يهدد بحفلة دمار جديدة لوطننا ستكون بالتأكيد عابرة للطوائف، بدل استدعاء العداوات المجانية.