يقول البعض: «نيّال «حزب الله» بخصومه، فريق 14 آذار، ولا سيّما تيار «المستقبل». فـ«الحزب» يخوض في مغامرات يعترض عليها الخصوم. ثمّ ما يلبث أن يناديَهم إلى الحوار، من دون أن يتراجع عمّا قام به، فيتجاوبوا. ولو تكرَّر ذلك ألف مرّة، فإنّهم يغفرون ويستغفرون ويبدأون من جديد. وهكذا، يَطمئنُّ «الحزب» إلى قدرته على «الإقناع»، فيبدأ التخطيط لمغامرة جديدة… وإقناع جديد!
بين «المستقبل» و«حزب الله» مرَّ قطوع الحوار مجدّداً. بل إنّ الجولة الأخيرة كانت الأكثر جدّية، بعدما اعتقد الكثيرون أنّ الحوار مات، بعد تهديد الوزير نهاد المشنوق بالمغادرة، وردِّ السيّد حسن نصرالله عليه: «ألله معكن»!
بعيداً عن المنابر، تلقّى المشنوق وصقور «المستقبل» الأكثر تشَدُّداً في العلاقة مع «الحزب»، تعليمات واضحة من الرئيس سعد الحريري تفيد بأنّ طاولة الحوار مطلوبة، ولا مجالَ لفرطها.
فهي، بإدارة الرئيس نبيه بري، المكان الوحيد الذي يمكن أن يدار فيه البلد، في غياب المؤسسات. وهي حاجة مذهبية لأنّها الملتقى السنّي- الشيعي الوحيد في العالم العربي. وهي مطلوبة دوليّاً وعربياً لمنع انفراط لبنان.
وفي تقدير بعض أركان «المستقبل» الأكثر «اعتدالاً»، أنّ قَطع الحوار قد يكون مصلحة لـ«حزب الله» لأنّه سيسهّل له إطلاق يده بالكامل في لبنان. ولذلك، الأفضل أن يبقى لنا مكان نسأل فيه «الحزب» عمّا يفعله، بدل أن نسهّل له هذا الاستفراد.
في المقابل، هناك انطباع في بعض الأوساط الـ 14 آذارية مفادُه أنّ «المستقبل» يتساهل دائماً مع «الحزب» أكثر من اللازم، وأنّ هذه السياسة هي التي سَمحت له بالانتقال من موقع الخاسر في 2005 إلى الموقع المتكافئ في 2007، ثمّ موقع المنتصر في 2008.
ومن القائلين بهذه النظرية شركاء «المستقبل» الأساسيّون، كـ»القوات اللبنانية» التي لم تجِد فائدة في مشاركتها لا في الحكومة التي نشأت بصفقة بين «المستقبل» و«الحزب»، ولا في الحوار المعقود في المجلس النيابي. كما أنّ حزب الكتائب يقف عند نقطة وسطى بين واقعية المشاركة في الحوار ومثالية المقاطعة الاحتجاجية. وفي «المستقبل» نفسِه كوادر تتقاطع مواقفهم مع «القوات» أو الكتائب.
ويقول المتشدّدون داخل 14 آذار: بقيَت روحية «الحلف الرباعي» هي السائدة. وقد يكون الاعتبار المذهبي الإقليمي هو الذي يفرض ليونةَ «المستقبل» مقابل تشدُّد «الحزب». وربّما تكون هذه الليونة ضمانة لمنعِ اندلاع الفتنة المذهبية، لكن «الحزب» يستثمر خوفَ «المستقبل» من الفتنة لتكريس نفوذه.
ويعتقد العديد من أركان تيار «المستقبل» بصحّة هذه النظرة. ولكنّهم يقولون: على رغم كلّ التحفّظات، نحن نتفهَّم موقف قيادة التيار. فالحوار هو القدَر الذي لا يمكننا الهروب منه. ولو كان شركاؤنا في 14 آذار في موقعنا المذهبي لفَعلوا ما نفعله نحن.
وتُبدي أوساط الرئيس سعد الحريري انزعاجاً من الصورة التي يرسمها البعض عن «المستقبل» وانفتاحه، وتَعتبر أنّ بعض الرفاق في داخل التيار و14 آذار يتسرَّعون أحياناً في إطلاق الأحكام. فالحوار مع «الحزب» لم يؤدّ إلى تراجع «المستقبل» عن أيّ موقف يلتزمه. وعلى العكس، إنّ المواقف التي تصدر عنه خلال الحوار عالية السقف إلى درجة غير مسبوقة.
وتقول الأوساط: على طاولة الحوار، نحن نطرح الأمور بلا تحَفّظ. وعلى الأقلّ، نستطيع أن نقول لـ»الحزب» وجهاً لوجه ما نريده، وأن نطلب منه، وأن نستمع إلى موقفه ونناقشَه فيه، في معزل عن اقتناعه أو عدم اقتناعه بمواقفنا. أليس ذلك أفضل من إطلاق المواقف من على المنابر وعبر الشاشات؟
وتسأل الأوساط: هل المطلوب أن نردَّ على «حزب الله» بأسلوب المقاطعة والتحدّي فنخرّب البلد، ونغامر باندلاع فتنة مذهبية؟ وهل يوجِّهون إلينا اللومَ لمجرّد أنّنا «أمّ الصبي»؟ وإذا سَقط البلد في الفوضى والفتنة، فهل سيكون أحد مستفيداً، نحن أو «حزب الله» أو أيّ طرف آخر؟
لكنّ كوادر «المستقبل» يواجهون أسئلة يطرَحها المناصرون: صحيح أنّنا لا نقدِّم التنازلات على الطاولة، إلّا أنّ الحوار نفسه ينطلق من أسُس غير متكافئة. فسلاح «حزب الله» بقيَ خارج التداول، على رغم كونه المسألة الأساس في الحوار. وكلّ ما يُطلَب من «الحزب» اليوم هو أن يحدّ قليلاً من نشاط «سرايا المقاومة» في مناطقنا.
وكذلك، لم يعُد مطروحاً على الطاولة ملفّ تورُّط «الحزب» عسكرياً في سوريا. وعلى العكس، يتمّ هذا التورّط تحت رعاية الحكومة التي يتولّى «المستقبل» رئاستَها ووزارة الداخلية فيها وقيادة أجهزة أمنية.
وتالياً، إنّ الجلوس إلى طاولة واحدة مع «حزب الله» في الحكومة والحوار الثنائي والحوار «الوطني» أوحى للجميع بأنّ هناك مباركة لِما يقوم به «الحزب»، أو على الأقلّ «غَضّ نظر» انتظاراً للظرف الذي يَسمح بإنهاء الملف.
وهذه النظرية هي إيّاها التي يعمل «الحزب» على تسويقها، أي الإيحاء بأنّ للسلاح وظيفة ولا يمكن التخلّي عنه إلّا بانتهائها. ولأننا بِتنا نتوافق مع «الحزب»، واقعياً، على إخراج ملفَّي السلاح والتدخّل في سوريا عن الطاولة، فإنّنا لم نعُد قادرين على الطلب من المجتمع الدولي مساعدتَنا على معالجة ملفّ السلاح والتورُّط في سوريا.
وبناءً على ذلك، يضيف هؤلاء، ما الفائدة من قبول الدعوات إلى جلسات الحوار العبَثي، سواءٌ في شكله الثنائي في عين التينة، أو في شكله شِبه الجامع في البرلمان، سوى أنّها تمنح «الحزب» براءة ذمّة وتعيد إليه الصورة التي يحتاج إليها، أي صورة المُحاور السياسي؟
ويذهب البعض إلى القول: لقد نجَح «الحزب» في دفع الجميع إلى القبول بشروطه. وقد تكون هناك مبرّرات تدفع «المستقبل» إلى المهادنة، لكنّ «الحزب» هو الذي يختار توقيتَ المهادنة وظروفها وشروطها.
فهو عندما أراد تشكيلَ حكومته الخاصة، حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وإخراج الحريري و14 آذار من المعادلة فعَلها ولم يتردَّد. وعندما ارتأى حاجةً إلى غطاء الشراكة في الحكومة والحوار، وجَد الشريك جاهزاً تحت الطلب.
إذاً، هناك استعداد دائم لدى «المستقبل» لمهادنة «الحزب» لواحدةٍ من 4 ضرورات، أو لأكثر من واحدة:
– تمرير «المستقبل» للوقت الصعب، في سوريا خصوصاً، بأقلّ الأضرار، إقتناعاً منه بأنّ المجتمع الدولي لن يقوم بدور حازم في ملفَّي السلاح والتورّط في سوريا.
– تمرير الوقت بأقلّ الأضرار لاقتناعه بأنّ نهاية المواجهة في سوريا ستكون لمصلحة المحور الذي ينتمي إليه.
– الخوف على البلد من فتنة مذهبية.
– الخوف من «حزب الله».
وفي الخلاصة، يَقع «المستقبل» في السجال الذي تتخبّط فيه 14 آذار كلّها، منذ 10 سنوات: هل نَعتمد القطيعة التي قد تُسقِط السقف «علَيَّ وعلى أعدائي يا رب»… أم نقبَل بالتواصل والحوار، ولو على طريقة «أهواكَ بلا أملِ»؟
لم تتمكّن 14 آذار من ابتداع حلّ وسط بين السلبيتين، لأسباب كثيرة. وغرقَ الآذاريون في ردّات الفعل، ومراعاة الاعتبارات العربية والمحلّية، وأوجَعتهم الضربات الدموية.
وليس منطقياً «التنظير» على جماعة تواجه باللحم الحيّ. لكنّ ذلك لا يعفي من اعترافات سيَسمعها الناس، عند لحظة الاعتراف… وفيها سيقول الجميع «ما لنا وما علينا».