أُخِذَت قضية مطالب المجتمع الدولي من لبنان بخصوص طريقة معالجة ملف النازحين السوريين فيه الى دائرة السجال الضيق بين «١٤ و٨ آذار»، ما جعل الدولة كعادتها تتوه عن مواكبةٍ مسؤولة تلبّي متغيّرات جوهرية طرأت على نظرة الجهات الدولية المانحة إلى سبل معالجتها لهذا الملف الخطر.
الحاصل حالياً منذ زيارة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لبيروت هو أنّ حقيقة ما يريده المجتمع الدولي من لبنان إزاء ملف النازحين السوريين فيه، لم تعد واضحة نتيجة تجيير الأطراف اللبنانية وقائعه والاحداث الخارجية المتصلة به لخانة تفسيرات تخدم نزاعاتهم الداخلية العبثية بأكثر ممّا تسعى لإجراء نقاش داخلي وطني مسؤول لتقويم التطور الدولي الذي طرأ إزاء هذا الملف وإيجاد الرد اللبناني المناسب عليه والقابل للتحقق داخلياً بدعم دولي.
وبدلاً من توجّه لبنان الداخل الى معالجة مسؤولة قادرة على التكيّف مع متغيرات دولية إزاءَ ملف النازحين السوريين، تحمي مصالحه الاستراتيجية، فإنه ذهب للتعاطي معها وفق طقس لعبة «14 و8 آذار» التقليدية التي تجعل البلد في كلّ مناسبة فريقين يتجادلان على جنس الملائكة؛ وهذه المرة تمّ إيجاد تطبيق لهذا التقليد على ملف النازحين السوريين، حيث انقسم الآذاريون بين معارض ومؤيّد لمقاطعة وزير الخارجية جبران باسيل زيارة بان كي مون للبنان.
أما الامر الثمين في كلّ هذه القصة، والمتمثّلة في معرفة ما إذا كان المجتمع الدولي يطرح فعلاً شروطاً جديدة على لبنان للاستمرار في مساعدته مادياً بإغاثة النازحين السوريين، فإنه تمّ تمييعها وإبقاؤها في إطار التكهنات.
وأبعد من حروب الآذاريين البينية، يبقى السؤال المحتاج لإجابة شافية: هل حمل بان كي مون فعلاً الى لبنان مطالب جديدة من المجتمع الدولي بخصوص ملف النازحين السوريين؟ وما هي حقيقة قضية أنّ المجتمع الدولي يريد من الدولة اللبنانية أن تتعامل مع «النازحين السوريين» بصفتهم «لاجئين سوريين»؟
تؤكد مصادر مطلعة لـ«الجمهورية» أنّ مستجدات طرأت فعلاً على نظرة المجتمع الدولي إلى طريقة معالجة ازمة النزوح السوري في الدول التي تستضيفهم. هذه المستجدات مردها تعاظم الإدراك الغربي، وخصوصاً الاوروبي، لحقيقة أنه يجب ايجاد نوعية ضيافة قانونية واقتصادية للنازحين السوريين في الدول المجاورة لسوريا، توفّر لهم استقراراً يجعلهم يُعرضون عن التفكير بالهجرة بنحوٍ شرعي او تسرّباً الى اوروبا.
وتقول هذه المصادر إنّ قصة الرؤية الدولية الجديدة لطريقة معالجة ملف النازحين السوريين، لم تفاتح بيروت بها خلال زيارة بان للبنان، بل حصلت هذه المفاتحة في شباط الماضي أثناء انعقاد مؤتمر الدول المانحة للنازحين السوريين في لندن.
آنذاك عرضت «الجمهورية» لجزء من النتائج غير المعلنة لهذا المؤتمر الذي كان رئيس الحكومة تمام سلام شارك فيه، وتمّ خلاله تداول أفكار لها صيغة «الشروط» التي يرى المانحون الدوليون أنّ على لبنان التزامها لقاءَ تقديم مساعدات مالية اضافية له ضمن إطار الاستمرار في إعانته على اغاثة النازحين السوريين المقيمين على ارضه.
وتتكوّن أجندة هذه الأفكار أو «الشروط» الدولية الجديدة، من المطالَب الآتية:
أولاً- الفكرة الاساسية المستجدة التي تطرحها الدول المانحة تتمثل في استبدال أسلوب اغاثة النازحين عبر المساعدات الريعية (توفير اموال تصرف على شراء مأكل وملبس واغاثات سريعة لهم) بإنشاء بنية اقتصادية خاصة بهم، توفّر لهم دورة إنتاجية تجعلهم قادرين على الانتاج الذاتي وتحصيل شيء من الاستقرار المعيشي على غير مستوى.
وفي التفاصيل أنّ الدول المانحة ترى أنّ الحلّ الافضل لاستيعاب مشكلة النازحين في لبنان، تتأمّن من خلال قيامها بتمويل عملية إنشاء بنية تحتية في لبنان تستطيع استيعاب النازحين السوريين فيه. والهدف الأساس من ذلك هو الرهان على أنّ هذه البنية ستكون قادرة على إنتاج دورة اقتصادية لهؤلاء النازحين بما يجعلهم قادرين على تلبية احتياجاتهم المعيشية من خلال دورة اقتصادية خاصة بهم وليس عن طريق الأسلوب الماضي المتمثل في منحم تبرعات ريعية.
بكلام آخر يسعى المشروع الدولي الى بناء «اقتصاد النازحين السوريين في لبنان»، وبموجبه يتمّ إنشاء بنيته التحتية بتمويل من الدول المانحة ومن ثم يصبح اقتصادهم الخاص قادراً على توفير مستلزمات عيشهم انطلاقاً من انتاج قوة عملهم الذاتي، ما يؤمّن لهم استقراراً معيشياً واجتماعياً ومعنوياً يؤدي في النهاية الى التقليل من نسبة المتسرّبين بينهم للهجرة الى اوروبا.
أما المطلب الدولي الثاني فيتعلّق بالموجبات المترتبة على لبنان جراء تنفيذ التصوّر الدولي الآنف لاستيعاب ازمة النازحين السوريين، ومفادها أنه لضمان نجاح فكرة «إنشاء بنية تحتية بتمويل دولي تؤدّي لإنشاء اقتصاد النازحين السوريين»، فإنه يترتب على الدولة اللبنانية الموافقة المسبقة على اجراء تغييرات في قوانينها الراهنة التي تتعامل بها حالياً مع النازحين السوريين، ذلك أنّ انشاء دورة اقتصادية للنازحين السوريين في لبنان تقتضي وجود قوانين لبنانية تمنح النازح السوري الحق في العمل والمسكن والطبابة والتعلم، وامتيازات اخرى، الخ…
ومن هنا تشترط الأفكار الدولية الجديدة على لبنان أنه حتى يستحق نيل مساعدات جديدة لإغاثة النازحين ضمن الرؤية الجديدة لاستيعاب ازمتهم، عليه أن يعدل قوانينه الخاصة باستقبال النازح السوري بحيث يصبح لها مضمون قوانين اللجوء السارية التطبيق في الدول الاوروبية؛ أي اعتبار النازحين السوريين «لاجئين» أو أقله لهم حقوق اللاجئ بحسب القوانين السارية في الدول الغربية، ما يوجب إعطاؤهم جملة امتيازات ابرزها: حق العمل وحق الطبابة وحق الإقامة وعدم إخراجه من لبنان إلّا في حال قرّر اللاجئ ذلك بمحض إرادته.
وفي تفاصيل هذه الجزيئة الاخيرة، يتمّ طرح تعديلات في القوانين اللبنانية من نوع منح النازح السوري بطاقة إقامة
من الامن العام اللبناني، وأيضاً «وثيقة لاجئ» تتيح له عبر إبرازها في المطارات السفر حول العالم ما عدا سوريا، والعودة الى لبنان عندما يشاء.
تجدر الاشارة الى أنّ النازح السوري وفق القوانين اللبنانية السارية الاجراء، وعند دخوله لبنان من المنافذ الحدودية الشرعية يتمّ إعطاؤه «بطاقة إقامة عمل» لمدة سنة، ويتوجّب عليه بعد نفاذ مدتها تجديدها.
والحاصل الآن أنّ نسبة عالية من النازحين السوريين يقع وضعهم القانوني الراهن ضمن حالين: إما انهم انتهت صلاحية بطاقات إقامتهم ولم يجددوها وفق القوانين اللبنانية المرعية الاجراء، وصار وجودهم غير شرعي؛ أو أنهم دخلوا لبنان بنحو غير شرعي ولم يُسجّلوا نازحين، وفي الحالين فإنّ هؤلاء النازحين في غالبيتهم يلجأون الى المفوضية العامة للاجئين للحصول منها على بطاقة لاجئ.
وبموجب هذا الواقع فإنّ المفوضية، وليس الدولة اللبنانية، تُعتبر الآن هي الجهة الوحيدة التي تملك حالياً معلومات عالية الدقة عن أعداد النازحين السوريين في لبنان ومجمل أوضاعهم.
وتَصف مصادر مطلعة على هذا الملف العلاقة بين الدولة اللبنانية والمفوضية العامة للاجئين بأنّه يسودها نوع من «المسافة الرمادية»، نظراً لأنّ بيروت لا تريد مجاراة المفوضية في التعامل مع النازحين بشروط تقارب تصنيفهم قانونياً بأنهم لاجئون. وتسعى الأفكار الدولية الجديدة حول التعامل مع النازحين السوريين الى جعل الدولة اللبنانية تقترب في نظرتها الى الوضع القانوني للنازح السوري في لبنان من نظرة المفوضية العامة للاجئين اليه.
كذلك ترى الرؤية الدولية الجديدة عينها أنّ على لبنان أن يُنشئ سجلّات نفوس للنازحين السوريين تسمح بتسجيل ولادتهم الجديدة وإعطائهم وثائق ولادة (وليس جنسيات).
ثالثاً- ضمن هذه الرؤية الدولية الجديدة، تسرّب معلومات عن أنّ الدول المانحة تريد إنشاءَ بنية تحتية للنازحين السوريين في لبنان قادرة على اطلاق دورة انتاج اقتصادية خاصة بهم من جهة، وأن تتمتع بمواصفاتٍ بنّاءة تمنحها القدرة على تقديم الخدمات لهم من جهة اخرى، لفترة تمتد ما بين ١٠ الى ١٥ عاماً! ويعني هذا التحديد الزمني أنّ المجتمع الدولي يرى أنّ العمر الافتراضي لانعكاسات أزمة سوريا الاجتماعية والاقتصادية على لبنان، سيستمرّ لفترة ربع عقد.