هل كانت تَظنُّ الكاتبةُ البريطانيّةُ آغاتا كريستي أنَّ الروايةَ التي كَتبتها سنةَ 1923، «رئيسُ الوزراءِ المخَطوف» (The Kidnapped Prime Minister)، سترى النورَ بين لبنانَ والسعوديّة سنةَ 2017؟ ما يَحدُث لرئيسِ الحكومةِ «الُمُستَقال» سعد الحريري شبيهٌ بهذه الروايةِ التي حوَّلها المخرِجُ الإنكليزيّ أندرو غرييف (Andrew Grieve) فيلماً تلفزيونيّاً سنةَ 1990.
لكنَّ الفارقَ أنَّ التحرّيَ البريطانيَّ أُعطي 32 ساعةً و15 دقيقةً، بحَسب الروايةِ، لاستعادةِ رئيسِ الوزراء لئلّا تتحوّلَ عمليّةُ الخطفِ الخياليّةُ أزمةً دوليّة، فيما رئيسُ حكومتِنا مخطوفٌ فعلياً منذ عشرةِ أيامٍ، ولا يزال مَن يَزعمُ أنَّ الخطفَ استضافةٌ والاحتجازَ رعايةٌ والمراقبةَ حماية والاستقالة انتفاضة.
أما بعد، فالسعوديّةُ تُفيد لبنان حتّى حين تُسيءُ إليه من دونِ نيّةِ الإساءة؛ فالأزمةُ التي فجَّرتها أخيراً، كشَفت حقائقَ وملابساتٍ مختلِفةً أبرزُها:
1- الموقفُ السعودي، على عِلّاتِه، فتحَ موضوعَ سلاحِ حزبِ الله في لبنان والمِنطقة بشكلٍ نهائيّ. فبعدَ اليوم، أصبحَ هذا السلاحُ في نطاقِ المعالجةِ مهما كانت التَكلِفةُ. هذا قرارٌ دوليّ جَماعيٌّ. فبموازاةِ التدابيرِ السعوديّةِ المتصاعِدةِ تدريجاً، هناك العقوباتُ الأميركيّةُ المُتدَحرِجةُ ضِدَّ إيران وحزبِ الله، وإنذاراتُ الاتحادِ الأوروبيّ، والتهديداتُ العسكريّةُ الإسرائيليّة.
لذا، تَفرِضُ مصلحةُ حزب الله، علاوةً على المصلحةِ اللبنانية، أن تَتجاوبَ الدولةُ اللبنانيّةُ وتسارعَ إلى وضعِ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ جِدّيةٍ تَستوحي القرارَ 1701 و«إعلانَ بعبدا». هكذا، يَلتقي إطارُ الحلِّ اللبنانيِّ لحزبِ الله مع إطارِ التسويةِ الروسيّةِ ـ الأميركيّةِ للتمدُّدِ الإيرانيّ في سوريا. وتجاهلُ حزبِ الله والدولةِ هذا التحوّلَ سيَدفعُ المجتمعَ الدوليَّ نحو خِيارات أقسى.
2- الأحداثُ الأخيرةُ كَشفت أنَّ طبيعةَ الصِراعِ السعوديِّ ـ الإيرانيّ (حزبُ الله ضِمناً) مختلِفٌ عن واقعِ الصراعِ الإسرائيليِّ ـ الإيرانيّ (حزبُ الله أولاً). مِحورُ الصراعِ الأوّلِ في الخليجِ واليمن، فيما محورُ الصراعِ الثاني في لبنانَ وسوريا. لكنَّ التحولاتِ المَيدانيّةَ الأخيرةَ من اليمنِ إلى سوريا قَرَّبت بين الصراعين برعايةٍ أميركية، فزادَ خطرُ نشوبِ حربٍ إسرائيليّةٍ وَفْقَ توقيتِ تل أبيب لا وَفْقَ توقيتِ واشنطن أو الرياض.
3. وجودُ رئيسِ جمهوريّةٍ لبنانيّة متينٍ، مبادِرٍ، ضنين بالكرامةِ الوطنيّة. على أنَّ الكرامةَ لا تتجزأ، فلا نستطيعُ أن ندافعَ عنها بوجهِ السعوديّةِ ونُبيحَها لإيران. فتصريحاتُ المسؤولين الإيرانيّين في المدّةِ الأخيرة لا تَقِلّ إساءةً لسيادةِ لبنان عن تصريحاتِ مسؤولينَ سعوديّين. وإذا كانت قِلّةُ التجربةِ تَشفَع بشبابِ الرياض فكَثرةُ التجربةِ تجازي شِيبَ إيران. وبانتظارِ التعاملِ المتوازِن، نَجح الرئيسُ عون في جعلِ قصرِ بعبدا ملتقى كلِّ القِوى اللبنانيّةِ خِلافاً لما حَصل سنةَ 2005 حين أدَّت هزّةُ اغتيالِ الرئيس رفيق الحريري إلى أنْ يَنقسِمَ اللبنانيّون بين ساحتي الشهداءِ ورياض الصلح ويَبتعدوا عن قصرِ بعبدا.
4- وجود احتياطي من الوحدة الوطنية (أو الخوفِ الوطنيّ) تَمكَّن رئيسُ الجمهوريّة من بَلورتِها أمام الرأيِ العامِّ اللبنانيِّ والمجتمَعيْن العربيّ والدوليّ، فتشَجَّعت الدولُ الأجنبيّةُ، ولاسيما الكبرى منها، وتضامنَت مع لبنان وطالبَت بعودةِ الرئيسِ الحريري. على أنَّ الوِحدةَ الوطنيّةَ أيضاً لا تَتجزأُ، فلا قيمةَ لها إذا تَجلّت حولَ شكلِ تقديمِ استقالةِ رئيسِ الحكومةِ واختَفت حيالَ القضايا الوطنيّـةِ والسياديّة. فكلُّ «الوفاقِ الظاهريِّ» الحاصلِ منذ عشرةٍ أيامٍ سيتَبخّرُ فورَ أنْ يَطرحَ رئيسُ الجمهوريّةِ معالجةَ المشاكلِ التي يَشكو منها المجتمعُ اللبنانيُّ وأثارت غضبَ السعوديّةِ ودولِ الخليج.
5- التصرّفُ السعوديُّ الذي عبّر عنه مسؤولون سعوديّون جُدُد بشكلٍ فَظّ أدّى إلى نتائجَ عكسيّة: عِوضَ أن يَتَّحدَ اللبنانيّون ضِدَّ حزبِ الله ودورِه في حروبِ المِنطقة، امتعضوا من الموقِفِ السعوديِّ لأنهم أصيبوا بكرامتِهم، ونَسَوا الاهاناتِ التي وجَّهها السيدُ حسن نصرالله إلى العائلةِ المالِكةِ السعوديّةِ كلّما اعتلى مِنبراً وخَطب. وعِوضَ أن يُعزّزَ الموقِفُ السعوديُّ وِحدةَ الشارعِ السُنّي أثارَ خِلافاتٍ داخلَه. وعِوضَ أن يُولِّدَ الموقفُ السعوديُّ استنهاضاً جديداً لقوى 14 أذار عزّز، على الأقل مرحليّاً، تَجمّعَ 08 آذار.
6- تبيّن بالوجهِ الشرعيِّ أنَّ ما سُمِّيَ بـ«التسويةِ الرئاسيّةِ» سنةَ 2016 هي كنايةٌ عن «صفقةِ مُغَفَّلة» (marché de dupes). فكلُّ فريقٍ أخبَر حلفاءَه ما يَسُرُّهم لكي يتقبَّلوها.
لكن، حين أتَت الساعةُ بَرزت صفقةُ «التبييضِ السياسيّ». فسعدُ الحريري أوهَم السعوديّين (استناداً إلى أقوالِهم الأسبوع الماضي) أنَّ انتخابَ ميشال عون سيخرِجُه من سيطرةِ حزبِ الله، وأنَّ الأخيرَ سينسحبُ من سوريا. حَصلَ العكس، فدَفع الحريري ثمنَ الوعودِ الُمشتَهاةِ.
وأصلاً، منذ سنواتٍ نعيش في عالمِ النيات الُمشتَهاة: سنةَ 2006 ظنَّ الجنرالُ عون أنَّ «تفاهمَ مار مخايل» مَعبرٌ للحدِّ من سلاحِ حزبِ الله، وسنةَ 2015 تَوسَّم الدكتور جعجع بورقةِ «إعلان النيّات» ممراً لانتزاعِ التيّار الوطنيِّ الحر من حزبِ الله، وسنةَ 2016 توقَّع الرئيسُ الحريري أنً تَسحبَ التسويةُ الرئاسيّةُ الرئيسَ عون من جاذبيّةِ 08 آذار. لكنَّ كلَّ هذ التمنّياتِ الصادقةِ اصطدمت بسلاحِ حزب الله، والسلاحُ أقوى من النيّات.
إن كانت هذه النقاطُ بعضَ ما كَشفَه الموقِفُ السعوديّ، فماذا ستكشِفُه الاسابيعُ والأشهرُ المقبلة؟ جديرٌ بنا أنْ نعلمَ اليومَ مِن أنْ نقولَ غداً: «لو كنتُ أَعلَمُ».