Site icon IMLebanon

ما يعرفه الأسد..

صعب مبدئياً الافتراض أن الاستعراض السياسي هو الهدف الأول لزيارة بشار الأسد إلى موسكو واجتماعه مع فلاديمير بوتين، فهذا الأخير لم يترك شيئاً إلاّ وفعله من أجل تأكيد مواقفه من النكبة السورية، ولا يحتاج إلى فعل المزيد.

وذلك «قد» يعني أن لدى بوتين كلاماً يجب أن يسمعه الأسد شخصياً، أو العكس، لدى رئيس السلطة الساقطة في دمشق هواجس لا يمكن إيصالها إلاّ مباشرة، خصوصاً وأن الزيارة تلت موقفاً لافتاً لرئيس الوزراء الروسي ميدفيديف أدلى به قبل أيام وقال فيه بمنتهى الوضوح (والوقاحة!) إن بلاده تقاتل في سوريا من أجل مصالحها وليس من أجل الأسد!

وهذه تحديداً نقطة الفصل والوصل: إذا كانت موسكو تبحث عن تأكيد مصالحها، فإن الأسد لا يبحث سوى عن خلاصه الشخصي المرتبط تلقائياً بكل التركيبة الحزبية العائلية الفئوية التي تتحكم بسوريا منذ نصف قرن، ولم تجد شيئاً ترد به على تهديد سلطتها، سوى التدمير الشامل بشراً وحجراً..

والواضح من حركة الاتصالات العلنية ومن التصريحات المواكبة لما يحصل راهناً، أن كلام ميدفيديف عن «مصالح» بلاده، يرنّ في أذن الأسد بنغمة مختلفة عن تلك التي يسمعها غيره. وتُهيّج لديه اعمق مخاوفه من لحظة الحقيقة الأخيرة القائلة إن لغة المصالح أكبر من لغة المصائر الشخصية والسلطوية. وإن روسيا دولة وليست جمعية خيرية. وإن قيادتها منخرطة في حرب (صغيرة!) لكنها منخرطة أكثر في جدال ديبلوماسي مفتوح مع كل الدول المعنية بهذه النكبة، أكانت إقليمية أو دولية. وإنها، في العموم، وعلى عكس إيران، تتحرك تبعاً لقياسات الربح والخسارة وليس تبعاً لشعاراتها القومية أو الدينية، وتبحث عما تفترضه أفضل السبل لتأمين مصالحها تلك وليس الذهاب إلى ما ينسفها.

تعزز هذه القراءة (الافتراضية!) الكلمة التي غابت عن تصريح بوتين في بداية لقائه مع الأسد، والخاصة بمحاربة الإرهاب! في مقابل حضور مكثف لمصطلح «العملية السياسية» وتأكيده أنه «سيتواصل عن كثب مع قوى إقليمية وعالمية في شأن حل سلمي في سوريا».

والذي يعرفه الجميع (مبدئياً) هو أن «العملية السياسية» هي آخر جملة يريد أن يسمعها الأسد، بل هي ليست واردة في قاموسه أصلاً ومنذ بداية البدايات وحتى اليوم! فكيف الحال وقد ترافقت مع إضافات مؤذية أكثر تتعلق «بالتواصل عن كثب مع قوى إقليمية وعالمية في شأن حل سلمي» على ما جاء في كلام بوتين حرفياً؟

ثم أكثر من ذلك: يعرف الأسد ما يعرفه كل العالم، من أن الانخراط العسكري الروسي في سوريا لم يفتح حرباً عالمية من أجله! بل الحاصل هو أن القوى المقابلة تواكب ذلك الانخراط بخطوات متأنية ميدانياً وسياسياً.. تقدم بعض السلاح النوعي لقوى المعارضة السورية المسلحة كي تُبقي الميزان الميداني معتدلاً! وتُمطر في موازاة ذلك، الرئيس الروسي بـ«مبادرات» تسووية تحت سقف التراخي في الشكل والتشدد في المضمون، أي القبول (؟) بصيغة مرحلية تبقي الأسد فيها وتنهيه بانتهائها.. والبازار مفتوح على وسعه وأمام الملأ، وجلّه يتمحور حول المدّة الزمنية لتلك المرحلة الانتقالية.

ويعرف الأسد (مثلما أعرف أنا بالمناسبة!) أن تلك المبادرات المطروحة تنطلق من تسليم بحفظ «مصالح» روسيا العزيزة على قلب ميدفيديف، وليس على التهديد بكسرها. مثلما تنطلق من قاسم مشترك كبير وحسّاس هو «محاربة الإرهاب» التكفيري.. وفي ذلك تحديداً تكمن المعضلة الأخيرة لرئيس السلطة الساقطة في دمشق: «الحل السلمي» يعني حرفياً وعملياً ومنطقياً أن الكسر الذي يريده ممنوع. وأن الفصل بينه وبين «محاربة الإرهاب» لم ينفع ولن ينفع. وأن الكلام الذي يوزّعه مع رعاته الإيرانيين عن «حسم» عسكري ليس سوى تشبيح إعلامي لا يقبضه أحد! أولاً لأنه غير وارد سوى بجيوش جرّارة غير موجودة. وثانياً لأنه يتعارض تماماً مع قصة المصالح التي يريدها بوتين. وثالثاً لأن الآخرين القريبين والبعيدين، ومن الرياض إلى واشنطن مروراً بأنقرة، أكدوا تمسكهم بمواقفهم الأصلية ولم تهزّهم أصداء «عاصفة السوخوي» إلى حد دفعهم إلى التخلي والإذعان والاستسلام!

ويعرف الأسد أنه لا توجد ترجمة لمصطلح «العملية السياسية» أو «الحل السلمي» إلاّ بتأكيد سقوطه الأخير.. ويعرف رعاته الإيرانيون أكثر منه، أن ذلك ما كان وارداً لو لم يعجزوا هم عن حمايته على مدى السنوات الماضية: استعانوا بالروسي لإخضاع غيرهم، لكنهم سيكونون أول الخاضعين!

قراءة متفائلة ربما، لكنها واقعية!