يرى أمين معلوف في كتابه «اختلال العالم» أن بعض السبب في المآسي والكوارث التي نعيشها، هو هذا المشهد الانطباعي المتناقض كلياً، بين الغرب والعالم الإسلامي. الغرب يعتبر أن الإسلام عالم فريد وحيد غير قابل للاندماج في العصر. والعالم الإسلامي يعتبر أن الغرب في جوهره استعماري استغلالي يبتكر كل الوسائل لسرقة ثرواته لا غير. بين هذين الموقفين، لا مجال للجسر، ولا مكان للوساطة. ولا إمكان إلا للصدام والصراع والحرب… أسوأ ما يحصل في لبنان اليوم، أنه يقترب شيئاً فشيئاً من تناقض مماثل. كيف؟
في الأوساط الإسلامية، على مختلف مذاهبها وتوزعاتها السياسية، وحتى بين المعتدلين أو حتى الحريصين، منطق بدأ يخرج إلى السطح والعلن، مفاده أن «يروقو علينا شوي المسيحيين!». ألا يرون ما يحصل في المنطقة؟ ألا يدركون أي كوارث تحصل في محيطنا وأي ضغوط هائلة يرزح تحتها لبنان؟ وبالتالي على القيادات المسيحية أن تستدرك، وأن ترتدع عن عنادها وتعنّتها وأن تخفض سقوف مطالبها وحدود شروطها. على الأقطاب المسيحيين أن يعرفوا ويعترفوا بموازين القوى الداخلية، إن لم يقبلوا ويتقبّلوا موازين القوى الخارجية. ووفق تلك الموازين كافة، يحوز المسيحيون في لبنان راهناً حصة أكبر بكثير من حصص شركائهم في الوطن، إذا ما طبق منطق العدالة والعدد والنسبية. لا بل إنهم يشغلون مواقع تكاد تكون امتيازات لهم. يقول السياسيون المسلمون في صالوناتهم وسهراتهم: ماذا يريد المسيحيون أكثر من ذلك؟ لا بل ماذا يريد الموارنة خصوصاً؟ لديهم في العسكر والأمن قيادة الجيش ومديرية المخابرات وقيادة الدرك. ولديهم في المال حاكمية مصرف لبنان ومديرية المالية. ولديهم في القضاء رئاسة مجلس القضاء الأعلى ومجلس الشورى والمجلس الدستوري. ولديهم نصف الإدارة ونصف ضباط الأسلاك العسكرية ونصف البرلمان ونصف الحكومة ونصف البلد. ماذا يريدون أكثر؟ يهددون شركاءهم ويهوّلون على الدولة وعلى النظام والدستور بأنه إما أن ينتخب رئيس للجمهورية، هو الأقوى بينهم، وإما أن تستمر الأزمة ويستمر الشغور ويستمر الفراغ في المؤسسات وتستدام الفوضى؟ هل يعقل أن يبتزوا أهل الطائف، في الداخل والخارج، بمعادلة من نوع: إما أن يأتي ممثلنا الشرعي رئيساً، وإما أن نترك النظام مفتوحاً على إعادة قراءة ومراجعة ونسف وتعديل، من مؤتمر تأسيسي إلى عقد اجتماعي جديد، وصولاً حتى إلى نظريات التفتيت؟ قبل أن يختم بوح المسلمين من السياسيين والقياديين: في النهاية على المسيحيين، شركائنا في الوطن وأهلنا في الأرض، أن يدركوا أنهم مخطئون. عليهم أن يقبلوا بما يعطى لهم. وأن يرضوا بأي رئيس. وأن يأخذوا الممكن. لأن ما يأملونه مستحيل. ولأن داعش خلف الباب. ولأن أي اهتزاز للنظام، سيؤدي بهم إلى المثالثة في أدنى حد، إن لم يودِ بهم، كما أودت الفوضى بإخوتهم في العراق وسوريا وغيرهما…
يرفض الأقطاب المسيحيون هذا المنطق جملة وتفصيلاً. في تصورهم وأذهانهم والنفسيات والسلوكيات، ثمة قراءة مناقضة بالكامل. يقولون: لم يعد لدينا ما نخسره. لقد أصبحنا نرتقب مصيراً مماثلاً لمصير مسيحيي المحيط. الغرب لا يرانا. بين جهله والتجاهل. بين مصالحه والتواطؤ. إسرائيل تريد اقتلاعنا. تقنع الغرب بأنها كما هي قطعة منه في قلب الشرق. كذلك نحن قطعة من الشرق، لكن من الأفضل أن نكون في الغرب. هي تريد حصر مرجعيات الأديان بكل بساطة أو تبسيط: روما مرجعية كل مسيحيي العالم، أو موسكو لا هم، فليختر المسيحيون في ما بينهم. مكة مرجعية المسلمين، أو قم، فليختر المسلمون. لكن أورشليم مرجعية اليهود، لقد اختاروا هم وقضي الأمر. ولذلك يجب أن يرحل مسيحيو الشرق. الإسلامويون يؤيدونهم. يساعدونهم على التنفيذ، بالسكين والخنجر والنار والرصاص. وسط ذلك كله، لم يخرج صوت مسلم مرجعي واحد يطمئننا. لا الأزهر، ولا الأنظمة. لا العسكر ولا الحكام. حتى سليم الحص، لم يهتز إلا لصلاحيات رئاسة الحكومة في لبنان. ثم يمنَّن المسيحيون بوظائف ونواب؟ كلهم أعجز من تغيير حاجب في الدولة. كلهم أضعف من سهيل بوجي في إمساكه بكل الدولة. كلهم أوهى من كلمة سر خارجية تطيح كل الموازين والأحجام والحقائق والوقائع. تصوروا، يتابع منطق المسيحيين، أن يكون في بعبدا، ولستة أعوام مقبلة أو أكثر، موظف آخر. مسترئس آخر. معيَّن أو منصَّب آخر. أن يكون هناك من لا يعيد الثقة إلى المسيحيين، ومن لا يعيد المسيحيين إلى الدولة، ومن لا يعيد الدولة إلى توازنها وميثاقيتها. تصوروا أي اسم. ستكون النهاية. لا لأن فلاناً أو أمثاله ليسوا موارنة أو ليسوا مسيحيين. بل هم كذلك. لكن بكل بساطة لأنهم لا يمثلون المسيحيين، وبالتالي لا يحققون التوازن والميثاق والاستقرار الاطمئنان. إن لم يأت الأقوى، فسيرحل المسيحيون، وسيسقط النظام، لا لأننا سنسقطه بدورنا، بل سيسقط بغيابنا وبانكفائنا. وستكون داعشيات، في السياسة إن لم تكن بالسكاكين. وستكون رقة أخرى، وموصل وقندهار، لا لأن المسلمين يريدون ذلك، بل لأننا فشلنا كلنا في إعطاء النموذج المضاد والمناقض. نعم نريد الأقوى رئيساً، لا لشخصه، ولا نكاية بشريك، بل من أجل كل الشركاء، ومن أجل كل الوطن. لا نهدد بل نحذر. لا نهوّل، بل نرهص. لا نريد، بل نرجو أن نتجنب الكارثة…
منطقان متناقضان في البلد. إنه أسوأ ما يحصل. هلّا من يترجم للآخر؟!