إنّ متابعة التطورات في حالات النزاعات الكبرى أمرٌ غاية في الصعوبة.. لأنّ التداخل العميق لمصالح الدول الكبرى بالأحداث الصغرى يجعل من فهم الحقائق أمراً صعباً جدّاً وربما يحتاج إلى سنوات.. وفي أغلب الأحيان ينتظر المهتمون بهذه الأحداث حتى تُفرِجُ الدول عن أسرارها بالقدر المعقول ليتسنّى للمتابعين معرفة الممكن.. وحتى عندما نكون من ضحايا تلك الأحداث فذلك لا يجعلنا قادرين على تيقّن أسبابها وأهدافها..
الغريب بهذا الموضوع أنّ الإكثار من متابعة الأخبار يقلّل من نسبة إدراكها.. لأنّ ثورة المعلومات مفيدة فقط في سرعة الوصول للأحداث الموثّقة بشكلّ نهائي.. أمّا فيما يختصّ بالأحداث المباشرة التي نعيشها كل يوم فإنّ ثورة الاتصالات جعلتها اكثر غموضاً لكثرة استخدام الخبر بألف اتجاه واتجاه مما يجعل من التيقن أمراً مستحيلاً إلى حدّ بعيد.. ومعه تصبح المعلومة معدومة لأنّه خلال لحظات تتراكم المواقف المفسّرة والمعترضة والمؤيدة فينعدم التركيز.. ومع ثورة الاتصالات وحدها نستطيع أن نقول يستوي فيها الذين يعلمون والذين لا يعلمون..
تتسارع الأحداث في منطقتنا.. وتسقط دول وتقوم دول خلال ساعات.. وتقع مجازر ومآسي وويلات.. القلق سمةٌ عامّة للصغار والكبار.. وإنّ التأقلم مع هذا الإضطراب يعني الإستسلام للخراب من خلال الإنفصال عن الواقع.. وكلّنا إنفصلنا طوعيّاً خلال سنوات الحرب الطويلة في لبنان مما ساعدنا على تجاهل وعدم معرفة ما يحدث.. وهذا ما قد يجعل كلّ ما نعرفه وكلّ ما سنعرفه غير حقيقي.. بدليل أنّنا نغيّر الموضوعات كلّ يوم دون أن نتذكّر موضوعات الأمس.. وننفعل حيث يجب ألاّ ننفعل والعكس صحيح.. ونحاول أحياناً أن نتدخّل في سياسة الدول الكبرى ونتوهّم دور الناصح للآخر وننسى أنّنا رسبنا في كلّ الامتحانات بدون استثناء.. وارتكبنا مرة أخرى ما كنّا قد أخذنا فيه عفواً عامّاً مشروطاً بعدم تكرار ما نكرّره الآن.
إنّنا في ساعات حرجة للغاية.. وما نراه ونسمعه لا ندرك حقيقته ويفسّره كلٌّ على هواه.. إنّها ساعات حرجة ويجب ألاّ نتوهّم أنّنا خارج الميادين المشتعلة من حولنا.. فكلّ لبنانيّ يحمل الآن فوق كتفيْه شخصاً آخر غير لبناني.. والأحاديث الرسمية والإعلامية تنبىء بالأسوأ.. من حروب ونزاعات واختراقات.. ونحن ننتظر ذلك بمنتهى الهدوء والسكينة.. لا بل نسهب في التحليلات والتقديرات حول حروب كبرى أو إرهابية وكأنّنا نتحدّث عن بلد بعيد جداً عنّا وليس وطننا العزيز لبنان.
أعتقد أنّه بات علينا أن نعترف أننا مجموعة قليلة العدد.. ومساحتنا الجغرافية ضيّقة جداً.. ونسبة الكثافة البشرية في المتر الواحد عالية أيضاً.. ومواردنا محدودة بما فيها النفط والغاز الموعود في عرض البحر.. وإنّ تقوقعنا في طوائفنا بات أمراً مخجلاً ومعيقاً للخصوبة السياسية.. وهو أشبه بزواج الأقارب الذي لا ينتج أجيالاً سليمة.. وعملية التقاسم الوظيفي والنيابي والوزاري وغيرها من الوظائف العامة التي لا يزيد عددها على المئتي وظيفة كلّها لاتستحق أن تُدَمّر من أجلها الأجيال النيّرة والخلاّقة المبتكرة..
لا نستطيع أن نحدّد ما هو الموضوع الوطني الآن وبالأمس وغداً.. إذ أصبح الإغتراب عن الواقع هو السّمة الوطنية الأكثر شيوعاً.. وهنا نستطيع أن نسأل هل الشغور الرئاسي موضوعاً ملحّاً؟.. وإذا راجعنا كلّ التصريحات والخطابات والعظات نجد أنّ الجواب نعم.. وهنا يصبح من حقّنا أن نسأل لماذا حدث الخلاف الوزاري الذي دام لأسابيع؟ وكيف حُلَّ؟ وهل اهتمّ الناس في انعقاد مجلس الوزراء أم لا؟ وهل الطبقة السياسية مهتمّة باهتمام الناس؟ ربما هم أنفسهم نسوا ما كانوا مختلفين عليه.. وأين أصبح الشغور الرئاسي في سلوك الحكومة التي تهندس للبقاء الطويل في إدارة البلاد؟..
تكاثرت علينا في الأيام الماضية المبادرات الوطنية والدستورية والإجتماعية والسياسية.. وأيضاً ظهور تجمّعات جديدة وبعناوين جديدة ولكن بأسماء قديمة.. وبعضها قديمة جداً.. كلّها عبّرت عن قلقها على الأصولية الوطنية من هول الإنحراف الوطني في كلّ مجال.. مع الدعوة للعودة الى الوراء لحقبات وحقبات لعب كلٌّ منهم فيها على هواه.. إنّها العبقرية اللبنانية في إعادة إنتاج الذات لدرجة أنّ الشخصية السياسية اللبنانية تتوالد وتتكاثر باستمرار رغم فشلها في كلّ المرات السابقة.. وربما تكون السلامة الوطنية تقوم على الفشل السياسي.. لأنّ كلّ الذين نجحوا في تاريخ لبنان القديم والحديث كان مصيرهم الإغتيال.. وهذه حقيقة يعرفها الصغار والكبار في لبنان إلى درجة أنّني أشعر بالمهانة والفشل لأنّني لم أتعرّض لمحاولة اغتيال حقيقية.. لأنّ الإغتيال المعنوي الشديد الانتشار في لبنان صعب الإثبات..
لماذا كلّ الذين أحبّوا لبنان اغتيلوا؟ وهل من الغباء أن يحبّ الانسان وطنه؟ وما البديل عن ذلك طالما أنّه لا يعترف فينا وطنٌ غير لبنان؟ ولماذا يعتقد كلّ أذكياء السياسة في لبنان أنّ الزعامة لا تكون إلاّ بمقدار ما تأخذ من الوطن؟ وهذا معناه أنّه يصبح لكلّ هؤلاء سعره المعلوم.. وإلاّ لماذا يُقتَل كلّ من يعطي لبنان ويكبر كلّ من يأخذ من لبنان؟ أو ليست هذه هي الأزمة الوطنية وسببها أنّ الكلّ يحبّ نفسه ولا أحد يحبّ لبنان؟ وهكذا كان الحال دائماً.. من أعطوا قُتلوا ومن أخذوا نجحوا..
ما أصعب الحصول على ما يحتاجه اللبنانيون الآن.. وهو القليل من حبّ لبنان..