باتت أقوال النخبة من رجال الدين في لبنان بالنسبة إلى موضوع رئاسة الجمهورية المنقوصة رئيسها نوعاً من الرد على الرأي العام المستغرِب كيف أن رموز هذه النخبة لا يقْدِمون على ما من شأنه التعجيل في الحسم.
وفي بعض عبارات هذا المرجع الديني أو ذاك نلاحظ تكرار التمنيات بأن يمارس ممثلو الشعب اللبناني، بإعتبار أساس أن هذه التسمية هي المتعارَف عليها للذين يتم إنتخابهم نواباً، الواجب الذي ليسوا مخيَّرين في تأديته كونه يخص كافة أبناء الوطن. وهؤلاء يريدون رئيساً للبلاد.
ويكاد لا يمر قدّاس أو صلاة جمعة أو إجتماع روحي إلاَّ ويكون الموضوع الرئاسي في مضمون هذه العظة أو تلك الخُطبة. ورغم ذلك لا يتبدل الأمر ويضاف كل يوم رقم جديد إلى العدَّاد الذي يؤشِّر إلى خلو منصب رئاسة الجمهورية ممن يشغله.
وحيث أن المنصب هو للطائفة المارونية فإن الرئيس الروحي للطائفة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي يصبح دوره فاعلاً عندما تصاب الطائفة بهذا التوعك في الواجب ولا تدفع بواحد من أبنائها إلى سدة الرئاسة الخالية. ولكن لا يكفي ما يقوم به البطريرك حتى الآن وقد مضى على خلو منصب الرئاسة من شاغله حتى تاريخ اليوم عامان ودخلْنا في الثالث، وهذا ليس فقط أزمة ولكنه تقصير الموارنة في حق منصب كان من نصيبهم بموجب المحاصصة، وهو تقصير تنسحب سلبياته على سائر أبناء الشعب اللبناني.
منذ سنتيْن وبضعة أيام ونحن نسمع من البطريرك الراعي التنبيه تلو التنبيه. وفي بعض عظاته بعد زيارة إلى الفاتيكان أو إجتماع عقده في باريس يقول من الكلام ما يوحي بالمخاطر التي قد تنشأ نتيجة خلو منصب الرئاسة من شاغله الماروني. وفي عظة من عظاته وكانت يوم الأحد 30 أيار الماضي (وكان مر على الفراغ في سدة الرئاسة 735 يوماً) لاحظْنا أن البطريرك الراعي بات على أهبة تسمية الأمور بأسمائها أي بما معناه سيقول مَن هو الطرف المعطِّل إنتخاب الرئيس. ونستند في ما لاحظناه إلى قول البطريرك: «أزمة اليوم التي هي مصدر معاناتنا إنما هي أزمة عقول، أصبحت أسيرة حقائقها الشخصية ولا تريد أن تعرف الحقيقة الموضوعية التي تحرر وتجمع، وأزمة ضمائر باتت مخدَّرة ففقدت الشعور بالضرر الكبير ولا تسمع أنين بؤس النّاس ولا ترى حاجاتهم، وأزمة قلوب تحجرت فخلت من مشاعر الحنان والإندفاع بمسؤولية في البذل والعطاء…». وبعد أن يُشير إلى الخراب في مؤسسات الدولة الناشئ عن الفراغ في سدة الرئاسة ينتهي إلى القول: «إنَّا نُحمِّل المسؤولية التاريخية لكل الذين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يعطِّلون إنتخاب الرئيس ويهدمون مكوِّنات الدولة».
مَن هم هؤلاء يا صاحب الغبطة؟
لا ندري لماذا عزوفه عن تسمية المعطِّلين بأسمائهم، خصوصاً أن التهمة الموجَّهة إليهم هي هدْم مكوِّنات الدولة. وهنا يحضرنا قول الشاعر:
«قتْل إمرئٍ في غاية جريمة لا تُغتفر وقتْل شعب آمن مسألة فيها نظر».
والتعطيل يا سيّد بكركي هو كما ترى غِبطتك قتْل الشعب اللبناني وذلك لأن من يهدم مكوِّنات دولة كما تقول إنما يقتل شعباً ويحكم بمصير قاتم على جيل آت. ونقول ذلك على أساس أن الفراغ في سدة الرئاسة عندما يطول كل هذه المدة فإنه يصبح مستقبلاً بمثابة سابقة.. هذا إذا لم ينشأ ما هو أعظم بكثير.
العزم يليه الحزم فالتسمية، أو إستباقاً لها بــ «خلوة دينية – دنيوية» تضم رموز الطائفة بمن فيهم المتلهفون المعطِّلون للترؤس تناقش الأمر من زاويته المصيرية وتكون هذه الخلوة التي يترأسها سيّد بكركي بطبيعة الحال ولا تنتهي إلاَّ بالإتفاق على واحد من الحاضرين أو ربما غيره الذي لا يكون مشاركاً، ليكون الرئيس. تماماً على نحو ما يحصل عند إنتخاب البطريرك ويكون الدخان الأبيض دليلاً على إتمام الإستحقاق.
وهو إذا سمَّى أو عقد الخلوة فإن ردّ الفعل الشعبي سيكون إمتناناً ما بعده إمتنان له. وعندما يقول مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان بعد تلك العظة بخمسة أيام «متى سيعي المسؤولون في بلدنا أن هذا الفراغ القاتل في سدة الرئاسة خطر على الدولة والوجود وخطر على الكيان، فلا وطن بدون رئيس ولا لبنان وجوداً وإستقراراً إلاَّ بوجود هذا الرئيس»… إن سماحة مفتي الجمهورية عندما يقول ذلك فإنما يبعث برسالة إلى سيّد بكركي مفادها أن لحظة إعلان النفير يجب ألاَّ تتأخر. والنفير كما نراه هو تسمية المعطِّلين بأسمائهم وعندما يحدُث ذلك فإن الزعامة الروحية للطائفة تستعيد مهابتها.
من هنا نتطلع إلى «أُم العظات» من غبطة البطريرك عسى ولعل بما تتضمنه ما هو أكثر من التنبيه والتحذير. كما نتطلع إلى خطوة نوعية من الرئيس فرانسوا هولاند. خطوة تتمثل في تأدية دور له صفة الواجب، لا يؤديه بالنسبة إلى الموضوع اللبناني حتى الآن. أما هذا الدور – الواجب فهو مطالبة طرفيْن أساسييْن في الأزمة اللبنانية بتسديد ديْن مؤجل على كل منهما، وأن الضرورة قصوى للتسديد الآن، ذلك أن في التسديد ما يحقق إنفراجاً ملموساً في الأزمة الرئاسية اللبنانية يقود إلى حل.
وما نقصده بالديْن هو ردّ الجميل من جانب الثورة الإيرانية والعماد ميشال عون لوقفة فرنسية نوعية مع كل منهما.
بالنسبة إلى الثورة الإيرانية نشير إلى أن فرنسا إحتضنت الإمام آية الله الخميني في المرحلة التي كانت أساسية بالنسبة إليه لإسقاط نظام الشاه محمّد رضا بهلوي. وطوال الفترة التي أمضاها مقيماً في غاية الرعاية والحرص على أمنه وهدوء باله في بلدة «نوفل لوشاتو» القريبة من باريس كانت الحكومة الفرنسية أكثر من مضيف للإمام الذي يقود معارضة ليست سهلة ضد نظام الشاه. وبقيت الرعاية الفرنسية على حالها إلى حين نقْل الإمام ومعاونيه إلى مطار طهران معلناً بوصوله قيام نظام الجمهورية الإسلامية في إيران.
وحيث أن فرنسا الحالية كما دائماً، معنية بأمر الرئاسة اللبنانية تخشى عليها وترعاها فإن الرئيس فرانسوا هولاند بحضوره شخصياً ذات يوم إلى بيروت أعطى أهم إشارة لما تريده بلاده. ومثل هذه الزيارة وقد خلا منصب الرئاسة من شاغله تبدو غير مألوفة بروتوكولياً لكن مع ذلك وتدليلاً على الإهتمام قام بالزيارة بغرض تذليل عقبات إنتخاب رئيس.
ما نريد قوله هو أن تطلب فرنسا هولاند من النظام الإيراني تسهيل أمر إنتخاب رئيس للجمهورية. والطلب عملاً بتقاليد وأصول تفرض على المدين تسديد ما عليه خصوصاً أنه لولا إستضافة الإمام الخميني قائداً للثورة على نظام الشاه لما كان وجد مضافة أُخرى تُحقق له السلامة وبالتالي لما كان بات الولي الفقيه الذي حوَّل الأمبراطورية إلى جمهورية محكومة من ورثة بعدما رحل من دون أن يستكمل ثأره من الإنكسار الصدَّامي لمهابته. فهل سيفعل الرئيس هولاند ذلك وهو المتأكد من أن التعطيل في جانب منه إيران وأن ما يقوله النظام (السفير الإيراني لدى لبنان محمّد فتحعلي يوم الأحد 5 حزيران الجاري على سبيل المثال) لا يعكس حقيقة الموقف. أما الذي قاله السفير فهو «إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعتقد بأن الرأي الذي يخرج من صناديق الإقتراع، والإنتخاب في أي بلد من البلدان ينبغي أن يُراعى ويُحترم، وإن إيران لا تسمح لنفسها أن تتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان والدول الأُخرى، وخصوصاً في ما يتعلق بمسألة الإنتخابات الرئاسية في لبنان».
هذا بالنسبة إلى الديْن الإيراني. أما بالنسبة إلى الديْن الفرنسي المؤجَّل تسديده من جانب العماد ميشال عون فهو أنه لولا الإستضافة المضمونة من جانب السفارة الفرنسية في بيروت للعماد عون ثم تأمين إيصاله سالماً إلى فرنسا بعد محطَّة قبرصية، ثم وهذا هو الأهم لولا الإقامة المطمئنة للعماد عون في فرنسا الشبيهة بإقامة الإمام الخميني وكبار معاونيه، لكان ربما أصيب العماد بمكروه سوري وبالتالي لما كانت السلامة الفرنسية له أوصلتْه إلى أن يصبح رقماً صعباً في المعادلة الرئاسية، وهو بدل أن يكون حافظاً الجميل لفرنسا نراه تحالف مع «حزب الله» مشاركاً في تنفيذ حلقات السيناريو الذي رسمه النظام الإيراني – السوري ومن دون أن يأخذ في الإعتبار الصنيْع الفرسي له كما الصنيع المشابه للإمام الخميني.
خلاصة القول إن ما أوردناه ليس تهيؤات وإنما حقائق. فالتعطيل الرئاسي مستمر. والإنحدار حاصل. وفي إستطاعة السلطة الروحية التي لغبطة البطريرك على أبناء كنيسته، وهم هنا الرموز الفاعلة في الطائفة، إعتماد أسلوب يتجاوز العظات التي تجمع بين التحذير والنصيحة إلى التنبيه بأن إستمرار الفراغ يؤدي مستقبلاً إلى تجيير الحصة المارونية إلى مُحاصِص آخر. وأما أن يسدد النظام الإيراني وارث الإمام الخميني المدين لفرنسا، والعماد ميشال عون المدِين هو الآخر بالمثل، ما في الذمة من ديون، فهذا سيجعل نسائم الإنفراج تهدئ من ضيق النفوس. أما إذا كانت فرنسا هولاند لن تطالب وعلى الملأ بتسديد ديونها المعنوية السياسية التي هي في أحيان أكثر أهمية من الديون المالية، فإنها في ذلك تكون ضمناً تتطلع إلى الإستثمار المجزي في إيران بعد إستقرار أحوال إيران، أي بما معناه تنال منها أكثر بكثير مما يمكن أن تناله أميركا وبريطانيا، وبمثل ما تناله روسيا. وهنا يجوز الإفتراض إن فرنسا تبيع اللبنانيين مشاعر ولا تريد ضمناً إغضاب النظام الإيراني وأعماقه خارج إيران… وبالذات العُمق الأكثر تأثيراً «حزب الله» في لبنان. والله أعلم بما في الصدور.