في مثل هذه الأيّام قبل خمسة واربعين عاماً، في السادس عشر من تشرين الثاني 1970، انقلب حافظ الأسد على رفاقه في السلطة وانفرد بها كلّيا تحت شعار «الحركة التصحيحية».
زرع الأسد الأب بذور ما نشهده اليوم في سوريا حيث كيان يتفكّك وشعب صار اكثر من نصفه لاجئا داخل وطنه وخارجه.
قام نظام حافظ الأسد الذي ورثه بشّار على فكرتين. العصبية العلوية اوّلا والإبتزاز ثانيا واخيرا. كانت ممارسة الإرهاب، بكلّ اشكاله داخل سوريا وخارجها، القاسم المشترك بين الفكرتين.
وضع حافظ الأسد، تحت غطاء حزب البعث، الأسس لنظام جديد اوصل سوريا الى ما وصلت اليه اليوم، خصوصا بعدما قرّر توريث السلطة الى نجله بشّار من منطلق ان اسم سوريا صار «سوريا الأسد».
اسّس حافظ الأسد لدولة بوليسية تقوم على الأجهزة الأمنية. الثابت الوحيد في سياسته الخارجية كان التفاهم مع اسرائيل في شأن قضايا حيوية تهمّ الجانبين. وهذا ما يفسّر حاليا الإهتمام الإسرائيلي بالمحافظة على النظام الذي يؤمن بقاؤه الأمن في الجولان واستمرار احتلاله… ويؤمن في الوقت ذاته استمرار عملية الإنتهاء من سوريا التي تمرّ منذ استقلالها بأزمة نظام وكيان في الوقت ذاته.
عمل نظام حافظ الأسد القائم على التفرّد بالسلطة وعلى استخدام الأجهزة الأمنية على ضبط سوريا وقمع السوريين. حاول مدّ تجربته الى لبنان. نجح في ذلك الى حدّ كبير. فبعد تدجين سوريا والسوريين، سعى الى تدجين لبنان واللبنانيين. كانت لعبته تقوم على الغاء الآخر. الغى كلّ سوري يمكن ان تكون له حيثية، خصوصا اهل المدن الكبرى. والغى كلّ لبناني كان يمكن ان يدرك ابعاد مخططه.
في عهد حافظ الأسد، لم يعد من سنّي او مسيحي او درزي يمتلك نفوذا غير مستمدّ من العلاقة المباشرة بالأجهزة. اختزل الطائفة العلوية في شخصه بعد سجنه صلاح جديد واغتياله محمد عمران في طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني.
كان الإنفجار السوري في السنة 2011 بمثابة بداية النهاية الطبيعية لنظام عمل على افقار سوريا والسوريين وعلى قيام طبقة طفيلية قائمة على المنافع المتبادلة بين افراد العائلة ومجموعة من كبار الضباط العلويين من جهة وبعض رجال الأعمال من جهة اخرى.
في 45 سنة لم تحصل في سوريا اي تنمية، باستثناء بعض الطرقات والمشاريع التي لم تغيّر شيئا في مستوى المعيشة لدى المواطن العادي. لا يزال فيلم عمر اميرالاي «طوفان البعث» خير مثال على الطبيعية الحقيقية للنظام الذي حاول تغطية عجزه عبر مشاريع كبيرة لم تؤد سوى الى كوارث طبيعية وضرب النسيج الإجتماعي في المحافظات التي تمتلك ثروة زراعية.
خلافا لكلّ ما قيل ويقال عن الحرص على الأقلّيات، زادت الهجرة من سوريا في عهد حافظ الأسد، هجرة العقول خصوصا. زادت هجرة المسيحيين الذين همّشهم النظام الى ابعد حدود ورفض ان يكونوا سوى مجرّد خدم عنده.
كانت فلسفة حافظ الأسد تستند في كلّ وقت الى استمرار حال اللاحرب واللاسلم في المنطقة. كان التفاهم واضحا في هذا المجال بينه وبين اسرائيل. اكثر من ذلك، كانت هناك مصلحة مشتركة بين الجانبين في بقاء جنوب لبنان جرحا ينزف، اكان ذلك قبل العام 1982، قبل الخروج الفلسطيني المسلّح، شبه الكامل، من لبنان او بعد ذلك عندما بدأ صعود «حزب الله»، اللواء في «الحرس الثوري» الإيراني، الذي استطاع في مرحلة معيّنة جعل النفوذ السوري في لبنان تحت رحمته، بعدما كان هذا النفوذ قائما قبل العام 2005 في ظلّ معادلة مختلفة.
كان الإنفجار السوري في 2011 انفجارا داخليا قبل اي شيء. كان انفجارا طبيعيا. كان النظام يمارس في استمرار الهروب الى امام. هرب باستمرار الى لبنان… الى ان جاء اليوم الذي ارتدّت جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه عليه.
لم يمتلك النظام، ان في عهد الأسد الأب او في عهد الإبن اي رغبة في الإهتمام حقيقة في سوريا. كان همّ الأب منصبّا على الطائفة وحمايتها وكيفية الإنتقام من سنّة المدن، عقدته التاريخية، فيما ركّز الإبن على مصالح العائلة وتنمية ثروتها.
كان يمكن لسوريا، بما تملكه من ثروات طبيعية وثروة بشرية، ان تكون متفوّقة في كلّ الميادين على الصعيد الإقليمي.
لم يستثمر حافظ الإسد الّا في الأجهزة الأمنية ومشروع حلف الأقلّيات الذي كان يعتقد انّه سيجعل منه قوّة اقليمية. كان في كلّ وقت قوّة اقليمية في خدمة المشروعين غير العربيين في المنطقة وهما المشروع الإسرائيلي والمشروع الإيراني اللذين يلتقيان عند نقطة واحدة، لا تبدو روسيا ـ بوتين بعيدة عنها.
انّها البذور التي زرعها حافظ الأسد قبل 45 سنة وحتّى قبل ذلك عندما كان وزيرا للدفاع في العام 1967. اينعت البذور وجاء من يحصد. نعم صنع حافظ الأسد التاريخ السوري الحديث. تكفّلت البذور التي زرعها بتفتيت سوريا. اتقن القتل والهدم والإبتزاز ولعبة الإرهابي الذي يشعل الحرائق… ثم يتظاهر بأنه الوحيد القادر على اطفائها. لم يدرك يوما ان لكلّ لعبة، مهما كانت قذرة نهاية!