كان امرا بديهيا ان تظهر في فلتات لسان بعض القيادات العونية ابان تصريحاتهم في الازمة الحكومية الراهنة مصطلحات وتعبيرات تنطوي على الرغبة في مقارعة النظام السياسي الحالي، حتى ان بعضهم مضى الى الأبعد فلوّح برفع شعار اسقاط هذا النظام او ادخال تعديلات جذرية على بنيانه.
ولا ريب في ان البعض يجد تماثلا بين مرارة هذه الشريحة السياسية بفعل تجربة في السلطة عمرها نحو ثماني سنوات، وبين مرارة تجربة “الاخوان المسلمين” في حكم مصر، والتي انتهت عمليا بعد نحو عام وقد لخصها الرئيس المصري “الاخواني” محمد مرسي بالقول ان المشكلة هي ان “الدولة في مصر عميقة الجذور”. والقاسم المشترك بين التجربتين، على رغم التباعد المكاني والزماني، هواستعصاء التركيبة الحاكمة في كل من البلدين على التحول والتغير من جهة، وتقبل وافدين جدد او شركاء آخرين من جهة اخرى.
صاحب هذه الرؤية بدأ يجاهر بها وهو يعاين عن كثب أبعاد “الانتفاضة البرتقالية” التي بلغت ذروتها أول من امس في الشارع وفي داخل قاعة اجتماعات مجلس الوزراء في السرايا الحكومية، ويتحرى تداعياتها ونتائجها وآثارها راهناً ومستقبلاً.
وفي عرف صاحب هذه الرؤية ان محاكمة ما حصل امس على اساس ربح هذا الفريق من فريقي النزاع او ربح ذاك او تعادلهما، هو مشهد عرضي لان الجوهر يكمن في عمق تجربة التيار البرتقالي مع 4 حكومات شارك هو فيها منذ اتفاق الدوحة حتى الان، وهي حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الثانية وحكومة الرئيس سعد الحريري وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثانية واخيرا حكومة الرئيس تمام سلام الحالية. فهي في الخلاصة تجربة مثقلة بالمرارات والخيبة من اخفاق التيار في الولوج بسلاسة الى لعبة المحاصصة والشراكة الفعلية في كعكة الحكم ومنظومة المصالح التي تسودها.
ولا شك انه عندما قرر هذا التيار ان يشارك في حكومة الرئيس السنيورة الثانية راودت بعض رموزه فكرة الاندماج في هذه اللعبة والاستفادة منها على نحو يغادر معها التيار موقع المعارضة والاعتراض الذي اتقنه منذ ان ابعد زعيمه ومؤسسه العماد ميشال عون الى باريس عام 1990، ثم منذ ان اقصاه الحلف الرباعي عن حكومة الرئيس السنيورة الاولى والتي كان يحق له ان يشارك فيها بحصة وازنة بعد النتائج الباهرة التي حققها يومذاك في الانتخابات النيابية وكرسته رقما صعبا في الساحة المسيحية.
لكن ثمة ثلاثياً حال دونه ودون بلوغه مقام المشارك المكرس والفاعل في كعكة الحكم والسلطة وذلك لاعتبارات وحسابات عدة ابرزها:
– ان طبيعة التركيبة والمنظومة القائمة منذ اتفاق الطائف ليس من “شيمها” استقبال وافدين جدد اليها.
– ان غالبية الحصة المسيحية في الدولة مصادرة سلفا بفعل التقادم ووضع اليد.
– ان ثمة حسابات دقيقة لدى الثلاثي اياه اوصدت الابواب امام التيار العوني الباحث عن الدور والحصة وحرمته فرصة التحول قيّماً حصريا على الحصة المسيحية.
واللافت ان هذه التجربة المرة وجدت ايضا ابان حكومة الرئيس ميقاتي، فرغم انه كان للتيار 10 وزراء الا ان ميقاتي نفسه والرئيس ميشال سليمان والرئيس نبيه بري لعبوا دور “الحارس الامين” للمنظومة حائلين دون اي تغيير في الاحجام، واستطرادا دون ان يكرس عون قيما على الحصة المسيحية.
انطلاقا من الاعتبارات اياها، كرر الثلاثي نفسه قواعد اللعبة عينها في مواجهة “الانتفاضة العونية” منذ ان بدأت قبيل فترة وجيزة. ففجأة صار الرئيس بري في واجهة معارضي تحرك عون تحت شعارات متدرجة منسقا مع تيار المستقبل”، فيما تخلى النائب وليد جنبلاط عن العودة الى التهدئة واقتراح صيغ الحلول، فزار عشية الجلسة الحكومية الاخيرة الرئيس سلام على رأس وفد وزاري ونيابي في رسالة لاتخفى مقاصدها على مراقب.
وليس سراً ان عون حاول ان يدخل الى عمق لعبة المحاصصة من باب آخر هو باب زعيم “المستقبل” الرئيس سعد الحريري، فتخلى خلال نحو عام عن خطابه المعتاد حيال التيار الأزرق وسعى للقاء الحريري في روما. ولكن عندما ايقن عون ان هذا الباب بقي موصدا امامه رغم وعود وتطمينات، كانت انتفاضته التي اختار لها لحظات وعناوين وسبلاً شتى تنطوي على دراسة كل الاحتمالات.
فهو اختار لحظة اقليمية حساسة حبلى بالمفاجآت والتحولات. وعلى المستوى الداخلي اختار ان يلعب مع خصمه لعبة ايصال الامور الى “حافة الهاوية”، اذ لم يبدٍ اي تراجع عن الخيارات التصعيدية التي وعد بها رغم تهويل الجميع عليه بمن فيهم حلفاؤه بخطورتها، ولاسيما تداعيات اللجوء الى خيار الشارع، وذلك بهدف ردعه عن الذهاب الى الخيارات القصوى. وهو نجح الى حد بعيد في تحييد خصومه المسيحيين وحصل على دعم سياسي ومعنوي من حليفه الابرز “حزب الله” لكنه شاء ان يبقيه في خلفية الصورة لانه يدرك ان ذلك انفع له ولتحركه وانفع ايضا للحزب المتحسس دوما من امكانات الفتنة المذهبية، وعلى نحو او آخر خشي الخصم الاساس اي “تيار المستقبل” من احتمالات جر الامور الى ساحة صراع مسيحي – سني فآثر التهدئة والدخول في لعبة المساومة مع عون.
واكثر من ذلك، مضى عون الى محطات يدرك انها توجع الخصم، وبالتحديد، تيار المستقبل”، وذلك عندما لوّح بضرب الصيغة وتعديل الطائف وطرح الفيديرالية كخيار وارد. وفوق هذا وذاك لم يفعل ما فعله المكون الشيعي ابان حكومة السنيورة الاولى بخروجه من الحكومة لادراكه ان ذلك سيكون نقطة الضعف التي ينتظرها الخصم.
ولكن ماذا بعد؟ إنها جولة والحرب سجال، وهي اصلا لم تضع أوزارها.
فرصة الاسبوعين التي اعطاها التفاوض في الغرفة الخلفية في السرايا الحكومية كافية للقول ان “المستقبل” لايريد الذهاب الى لعبة الكسر وحرق المراكب مع عون، وانه في صدد اعادة الحسابات خصوصا ان وزراء “المستقبل” آثروا التزام الصمت ابان المشادة الشهيرة في الجلسة الاخيرة وما بعدها. أليس ذلك مبرراً للاستنتاج ان هناك تراجعاً وهناك متراجعين في لعبة عضّ الاصابع التي أطلقت أخيرا؟