المبادرة الجديدة للرئيس نبيه بري أحدثت الأصداء المتوقعة لها في الأوساط السياسية، وكشفت حقيقة المواقف، وتجاوب معها كل من كان يشكو ضمنا أو علنا من الألاعيب، وأسقطت أيضا العديد من الأقنعة على بعض الوجوه. وفي العمق، ليست القضية هي قضية انتخابات نيابية أو تقديم موعدها، أو تقديم ذرائع ظاهرها برّاق واصلاحي، وباطنها ينطوي على ألغام لاستئجار الوقت بالمجان وتسخيره من أجل مطّ الزمن بفسحة تمديد اضافية… في العمق، الأزمة أبعد من ذلك بكثير، وهي أزمة دولة تستمر بالانفاق بسخاء منقطع النظير، وكأن لبنان يتصدّر الكون في البحبوحة والازدهار والرخاء، ويكبّ المال بملايين الدولارات وأحيانا بالمليارات نموذجه الكهرباء، بينما بعض الذين يعيشون في حضن هذه الدولة، أو ينطقون باسمها، لا يكفّون عن الثرثرة بالقيم، ويحاضرون بالعفاف والطهارة، من صياح الديك والى حين مبيت الدجاج في القنّ، بدعوى الاصلاح ومحاربة الفساد!
أية طهارة، وأي اصلاح؟! لماذا ترتفع كلفة اجراء الانتخابات أضعافا، ولماذا التهويل بعامل ضيق الوقت لتلزيم بطاقات الهوية البيومترية بالتراضي، وذلك بعد فشل صفقة البطاقة الممغنطة بكلفة أكبر بكثير، مع استحالة التنفيذ في الموعد، وبالتراضي أيضا؟ وما سرّ هذه الحماسة للاصلاح في هذه الدورة الانتخابية بالذات، بينما تمّ هدر عشرات السنوات لوضع قانون جديد للانتخابات؟ ولماذا لا توضع طبخة الاصلاح على نار هادئة، وتدرس بروية ودون تسرّع، وتكون بمثابة حزمة واحدة مترابطة، كما فعل الرئيس شهاب من قبل، وليس بأسلوب الارتجال والصفقة والخطاب الشعبوي المفضوح والرخيص؟ ولماذا لا يولد الصبي إلاّ على يدي هذه القابلة القانونية بالذات وعلى عجل اليوم، بدلا من الولادة الآمنة في الدورة النيابية المقبلة وبما يحفظ سلامة الوالدة والمولود معا؟!
الاصلاح الحقيقي يبدأ أولا بايجاد مؤسسات الرقابة، أو تفعيلها واحاطتها بأعلى درجات الحصانة في حال وجودها. وما يفعله المتصدرون المنابر للمحاضرة بالعفاف، هو انه في حال وجود مؤسسة رقابية استعصت على التدجين، نحاول اليوم كسرها وإذلالها وتهميشها، كما جرى ويجري مع دائرة المناقصات، وسفن كرادينيز العزيزة جدا على بعض القلوب. هل الاصلاح هو انشاء وزارة دولة لمكافحة الفساد، وتقديمها في الطقم الوزاري كمجرد وزارة اكمال عدد، دون تزويدها بالامكانات اللازمة، وتقطع عنها الكهرباء لأنها لم تسدّد الفاتورة، لأنها وزارة دون ميزانية خاصة بها؟ هذا مع اعترافنا بنزاهة الوزير وكفاءته ونظافة كفّه؟ وهل يلوم أحد الشيخ سامي الجميّل وهو يتهكّم علنا وبسخرية فجّة على هذا النوع المزعوم من الاصلاح؟
خطابات الهوبرة والزعبرة تذهب هباء، ولن يصحّ إلاّ الصحيح!