IMLebanon

أي قاعدة إجتماعية تفرض التغيير؟

  

 

يجدر بنا النظر بجدّية إلى مبادرة الحزب الشيوعي اللبناني والتنظيم الشعبي الناصري والقوى والمجموعات السياسية والمدنية المشاركة معهما في تنظيم التحرّك في الشارع، وممارسة الضغط على السلطة من اجل فرض التغيير على جدول الاعمال في مواجهة الاوضاع القائمة والمخاطر التي تهدد فئات اجتماعية واسعة. ومهما كانت المآخذ على هذه المبادرة، فهي تنبع من الحاجة إلى تعزيز منطق الاعتراض والرفض الحقيقي لكل سياسات الدولة. ويستحق العاملون على انجاح المبادرة وتوسيع دائرتها وقواعدها الاجتماعية، المساعدة في تحويل مبادرتهم الى حركة قادرة على فرض اولويات مختلفة على من بيده القرار.

إذا كانت التصورات ستظل متعددة حول الوسيلة الأنجع لإقناع أهل السلطة بالتنحي، وافساح المجال أمام قوى وأفكار وآليات جديدة، تساهم في اعادة بناء الدولة والاقتصاد، وترعى عقداً اجتماعياً جديداً يقوم على مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية والمصالح العامّة والوطنية، فإن تجاهل التحركات الجارية في سياق المبادرة المذكورة، فيه الكثير من الإجحاف. ومثل هذا التجاهل سيكون متعارضاً مع النزعة النقدية الضرورية، سواء من قبل الذين يعتبرون أن كل احتجاج محكوم بالفشل في ظل الانقسامات الطائفية، أو من الذين لا يرون سبيلاً إلى التغيير إلا بالعنف المنظّم لانهاء عهد السلالات المتناسلة بقوة الاكراه، ونهب المال من جيوب الناس.

يعتقد المحتجون في الشارع أن أسلوبهم ملائم للانطلاق في عملية التغيير، وهدفهم الفعلي (الواقعي ضمناً) هو ارغام السلطة على تغيير سياساتها التي تودي بنا الى الهلاك. ولكن المواكبة الداعمة لا تمنع النقاش حول آليات العمل وشعارات التحرك وأدوات التنفيذ.

وفي هذا السياق، يجب أن نتذكّر دائماً أننا في مواجهة طبقة حاكمة سبق لها أن حصلت قبل شهور قليلة فقط، على تفويض جديد في الانتخابات النيابية، من قبل غالبية كبيرة جداً من اللبنانيين الذين شاركوا في الاقتراع. وبمعزل عن أسباب التصويت، والشعارات التي استقطبت الناخبين باسم الطائفة والمذهب والعصبية والزعامة، فإن هذه الطبقة نجحت في اعادة انتاج نفسها. وحتى التغييرات التي طرأت على مستوى بعض الوجوه، لا تعكس تغييراً جوهرياً، بقدر ما تعكس حاجة أهل الحكم إلى تغييرات في الشكل تحاكي بعض تطلبات الجمهور.

هذا يعني أن الحركة المنظمة في مواجهة هذه الطبقة، تظل قاصرة شعبياً عن تحقيق توازن ضروري لإرغام أهل الحكم على التفكير بطريقة مختلفة. ولكي يتحقق هذا التوازن، يُفترض بالمحتجين ابتداع الوسائل والخطابات والشعارات والشخصيات والأطر المناسبة لهزّ القواعد الاجتماعية للطبقة الحاكمة واختراقها. وهذا بالضبط ما يفرض التعامل بواقعية مع مهمة مركزية قوامها اقناع فئات اجتماعية ومهنية مختلفة بجدوى المشاركة في الحركة الاحتجاجية. وبالتالي جذب قواعد اجتماعية تمثل أطراف العقد الاجتماعي المطلوب الذي يعيد الاعتبار إلى الدولة والقانون وحقوق الناس على اختلافها.

إذا سرنا في هذا الاتجاه من التفكير، فهذا يعني أن على أصحاب المبادرة أن يدركوا أنهم لا يمثلون إلا جزءاً يسيراً من هذا التشكيل الاجتماعي الكبير، وبالتالي عليهم ان يسعوا إلى بناء مراكز قوة مؤثرة في السياسة والادارة والاقتصاد. من دون ذلك، لن يكونوا قادرين على تهديد مصالح المتحكمين بالبلاد. وبالتالي، فإن المهمة الأساسية أمام من يقود التحرك ومن يشارك فيه، إيجاد أشكال من الحوار الحقيقي مع القواعد المشكّلة لعناصر اقتصاد الدولة واجتماعها. وبشكل أوضح، لن يزيد تأثير المحتجين، إذا لم يقنعوا فئات واسعة بوجود مصلحة لها في الإنخراط بحركة الإحتجاج والضغط، كالأطباء مثلاً والمهندسين والمحامين والعاملين في قطاعات المال والمصارف والاتصالات والصناعة على ضعفها. وكذلك العاملون في القطاع العام، الذين يشكلون القاعدة الاجتماعية الأكبر في لبنان، من حيث كونهم يعملون جميعاً عند رب عمل واحد هو الدولة، وباعتبار انهم اليوم عرضة لمخاطر الصرف من العمل، وتخفيض الأجور ومعاشات التقاعد بحجة إنقاذ المالية العامة للدولة.

 

أن نكون إلى جانب التحرك يعني بالضرورة ألا نتوهم ما يفوق طاقة المحتجين

 

وحده هذا التحوّل يجعل الأسلوب والهدف المطروحين مجديين. مجرد إقرار القائمين على التحرك بضرورة وأهمية الحوار مع هذه الكتل الاجتماعية المنتجة، هو مدخل لتوسيع قاعدة التحرك. لكن، لن يكون الأمر سهلاً من دون إعداد خطة عمل واضحة وسهلة، تشكل الإطار المشترك بين الجميع، ولا تحتوي على أي مخزون من الخطاب القائم على أسس طائفية أو مذهبية أو مناطقية. ولا يمكن أن يكون الإطار محصوراً في التطلعات الضيّقة. إن الحوار يستوجب الإقرار مسبقاً بأن التجربة والتحرك والمثابرة والتقويم الدائم، هي التي تقود إلى أرضية مشتركة فيها الخطاب، وفيها المطالب، وفيها خطة العمل، وفيها البديل. وإلا، سينتهي الامر بهذا التحرك، إلى ما انتهى إليه غيره من التحركات، أي مجرد صرخة تحبط الناس، أكثر مما تزعج السلطان وحرسه.

إن المأساة التي يعيشها لبنان اليوم، لا تترك أحداً من شرّها. حتى القتلة والسارقون بدأوا يشعرون بالضيق. وهم على معرفة تامة، وقناعة، بأن عليهم التنازل، لكنهم لن يفعلوا ذلك طواعية ولا بسهولة. بل سيفعلون ذلك إن شعروا بأن الشارع لن يتركهم يفلتون هذه المرة. وهي المهمة الأكثر صعوبة على يمتلك مشروعاً طموحاً هو الدعوة إلى حركة احتجاج واسعة، لا تقف عند خاطر طائفة أو منطقة أو حزب أو زعامة، بل تعرف أنها قد تضطر إلى الإصطدام بهؤلاء في لحظة ما…

أن نكون إلى جانب التحرك، وأن ندعمه بكل ما نملك من جهد، يعني بالضرورة ألا نتوهم، وألا نتوقع ما يفوق طاقة المحتجين.

 

من ملف : إنها البداية!