فجّر رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل قنبلته في وجه موظفي القطاع العام، وغادر إلى موسكو ليقول في القضية الفلسطينية وفي مسألة عودة سوريا إلى الجامعة العربية، ما لم يقله مالكٌ في الخمرة. طبعاً، لا ترابط عضوياً أو مصلحياً بين المسألتين، ولكنّ المشهدين بديا متشابهين في «دَوِيّهما».
تدرك القوى السياسية جميعها أنّ وزير الخارجية لم يرتكب زلّة لسان حين قرر وقف عملية الهروب إلى الأمام التي يمارسها شركاؤه الحكوميون، ومصارحة الرأي العام بما ينتظره. لا بل قرّر فتحَ كوة في جدار حديديّ سيشظّي كل من حاول الاقتراب منه.
خلال الأسابيع الأخيرة المنصرمة، انحصرت الحركة السياسية في البلاد في مربّع واحد: كيف تُصاغ الموازنة التقشّفية؟ من أين يُؤكل كتفُ التخفيضات في النفقات العامة؟ من أيِّ جيوب؟ من يملك الجرأة على مواجهة الناس بالقرارات الموجعة؟
هكذا قرر باسيل أن يكون «الانتحاريَّ» الأول الذي رمى نفسه في حقل ألغام المكاشفة الصعبة مع الرأي العام لرفع الستارة عن مرحلة «فِقَرية» ستنهل من جيوب الفقراء كما الميسورين من خلال سلسلة اجراءات قاسية تستعد الطبقة السياسية للإفصاح عنها على دفعات، تمهيداً للكشف عن «السكاكين» التي ستستعين بها الحكومة للاقتطاع من الإنفاق العام قدر الإمكان.
حتى الآن، أعدّ وزير المال علي حسن خليل ورقة تتضمن التخفيضات غير الشعبية، لكنها لا تزال مشروعاً قيد النقاش حول طبيعة البنود التقشفية التي يُفترض إدخالها الموازنة وتلك الممكن تأجيلها أو حتى الاستغناء عنها، على نحو يثبت وجود عقبات عدة تحول دون الاتفاق حول الموازنة.
إذاً بات واضحاً أنّ التجاذبَ الحاصل هو بين وجهتي نظر تتحكّمان بمسار الموازنة، إحداها تقول إنّ «الثقب الأسود» في المالية العامة يكمن في خدمة الدين العام (أكثر من 30% من اجمالي الإنفاق)، وبالتالي إنّ أهم أبواب المعالجات يكون من خلال تحصيل ضرائب الأملاك البحرية وخفض فوائد الدين والتي تستفيد منها المصارف كونها الدائنَ الأكبر للدولة اللبنانية.
وهنا يقول وزير معنيّ بالنقاشات الحاصلة، إنّ المصارف أبدت استعدادَها للمشاركة في «رزمة المساهمات» شرط أن تكون ضمن سلّة إصلاحية متكاملة تضع الوضع الاقتصادي على سكّة المعالجة المستدامة تحول دون العودة عند كل مطبّ إلى «حسابات» المصارف.
فيما تعتبر وجهة النظر الثانية أنّ تخمة التوظيفات في القطاع العام هي مزراب للخزينة العامة، وبالتالي لا مفرّ من تحجيم نفقات هذا القطاع من خلال خفض التقديمات الجانبية. إذ يسجَّل للدولة اللبنانية أنها أكبر رب عمل قياساً على عدد السكان، حيث يبلغ عديد القطاع الرسمي، المدني والعسكري أكثر من 335 ألف شخص وهو رقم قياسي يستحيل الإبقاء عليه كما هو في ظلّ الحالة الاقتصادية الصعبة، خصوصاً أنّ الرواتب وملحقاتها تكلّف أكثر من 30% من الفاتورة الإنفاقية.
وفيما تبرز إلى الأن معارضة شرسة للمَسّ بأصل رواتب الموظفين، يبدو أنّ التقديمات الصحية والتعليمية وغيرها من الإضافات التي تلحق بالرواتب، وُضعت تحت المجهر للعمل على «تشحيلها» و«تنحيفها»، مع العلم أنّ معارضي هذا الخيار يعتبرون أنّ الكلام عن رواتب خيالية لا يشمل إلّا فئةً محدّدة من الموظفين، لا يتعدّى عددُها المئة.
في كل الحالات، يقول أصحاب وجهة النظر الداعية إلى الاتكال في الجزء الأكبر من المساهمات، على المصارف، إنّ الحكومة تتصرف على أساس أنها حكومة «سيدر»، وبالتالي هي تلتزم دفترَ شروط المانحين ولا تحاول أبداً إيجاد حلول جذرية للأزمة الاقتصادية.
حسب هؤلاء، إنّ كل ما يتم التداولُ به من أفكار ترشيدية للإنفاق، لا ترتقي إلى مستوى الخطة الإنقاذية الشاملة، لا بل هي معالجات موضعية طارئة، لا تستهدف إلّا تنفيذ مقررات «سيدر»، من خلال خفض العجز بما يوازي 1% من الناتج المحلي الإجمالي على مدى خمس سنوات، سواء من خلال خفض كلفة القطاع العام، أو من خلال خفض كلفة العجز في مؤسسة كهرباء لبنان. ولهذا تفتقد كل الطروحات التي يتمّ التداولُ بها إلى خطة تطويرية للاقتصاد ويتمّ الاكتفاء بالأفكار التقشفية.
ويرى هؤلاء أنّ الحكومة تتمتع بفرصة ذهبية نظراً الى طابعها التفاهمي الجامع الذي يسمح لها باتّخاذ قرارات استثنائية ولو كانت موجعة، كونها قادرةً على تغطيتها في الشارع لأنها تملك الحصة الأكبر من الرأي العام.
لكنها في المقابل، في حاجة الى وضع خطة متكاملة تمنح الطمأنينة للرأي العام على المدى البعيد فيما لو اضطرت إلى اتّخاذ قرارات صعبة، تكون بمثابة نقلة نوعية في الاقتصاد تعفيه من المطبات الطارئة. إلّا أنّ كل المؤشرات تدلّ على أنّ هذا المنحى غيرُ وارد أبداً على جدول أعمال الحكومة. وكل ما يحصل هو مجرد شدّ أحزمة لا أكثر.
في الخلاصة، يقول وزير مطلع على النقاشات التقشفية إنّ المكوّنات الحكومية سبق لها أن تفاهمت على مسألتين: خفض موازنات الوزارات والإنفاق الاستثماري بنسبة 20%، خفض عجز فاتورة الكهرباء بنسبة 2% تقريباً بحيث لا تتعدّى الـ2500 مليار على أن يتمّ تأمين المبلغ المتبقي من خلال تفعيل الجباية، وإلّا رفع ساعات التقنين.
أما بالنسبة الى بند الرواتب فلا يزال موضعَ تشاور، خصوصاً أنّ «حزب الله» لم يعطِ موقفاً نهائياً فيما الرئيس نبيه بري معارض هذا الطرح كلياً، أما رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط فيبدو أنه تراجع قليلاً بعدما كان أبدى تجاوبه.