IMLebanon

ما يريده الجيش وما لا يقوى عليه

يقارب الجيش حالات الفرار الاخيرة من المؤسسة العسكرية بقليل من الاهتمام. لا يعدو افرادها الا بضعة انقطعوا عن قطعهم تارة،او عن عائلاتهم طورا، قبل ان يُعلن التحاقهم بالتنظيمات المتطرفة وراء جرود عرسال

ليست المرة الاولى يُحرج الخلاف السياسي الداخلي الجيش، ويوحي بأنه يضعه في مواجهة طائفة شأن ما بدا في «حرب السنتين» عندما اصطدم بالسنّة الذين رفضوا دوره في الشارع. ثم في ما بعد عام 1983 باصطدامه بالدروز في الجبل، ثم في السنة التالية باصطدامه بالشيعة في بيروت وضاحيتها الجنوبية. استعان السنّة على الجيش حينذاك بالمقاومة الفلسطينية، والدروز والشيعة في ما بعد بسوريا. الى ان كانت آخر محن الجيش عام 1990 في النزاع المسلح المدمر المسيحي ـ المسيحي بينه والقوات اللبنانية.

في كل من الحالات تلك، كانت ثمة اكثر من محاولة لتفكيك الجيش جزئيا او كليا، تعيد تصويب موازين القوى السياسية بالتعويل على اضعاف المؤسسة العسكرية او تحييدها. في كل من الحالات تلك، استخدم السياسيون في هذا الفريق او ذاك الجيش في اللعبة المفتوحة. في الحالات تلك ايضا سُجّل فرار عسكريين التحقوا بالميليشيات هنا وهناك.

لم تكن حرب 1975 ـ 1990 السابقة. قبل ذلك في «ثورة 1958»، فرّ عسكريون من قطعهم، بينهم مَن التحق بـ«المقاومة الشعبية». معظمهم رجال درك، والغالبية شرطيون.

بالتأكيد لا يدخل الفرار في تقاليد المؤسسة العسكرية. في 56 عاما، منذ اول امتحان لها في الصراع الداخلي عام 1958، اعيد بناؤها اربع مرات في اجراء غير مألوف في تاريخ الجيوش عندما يتقلب عليها قادة او يسوقونها الى انقلابات عسكرية والاستيلاء على السلطة. الامر الذي لم يخبره لبنان. الا ان جيشه اعيد بناؤه اعوام 1959 و1977 و1983 و1990. في كل منها دفع جزية الخلاف الداخلي.

يدخل الجيش محنته الخامسة. شأن اشتباكه مع المقاومة الفلسطينية في الداخل عام 1968 تطور الى مواجهة قاسية عام 1973 ثم الى «حرب السنتين»، يواجه عدوا مماثلا على تماس مباشر معه عند الحدود الشرقية مع سوريا من الشمال الى الجنوب هو التنظيمات المتطرفة، من دون ان تعلن طائفة ـ هذه المرة علنا على الاقل كالسابق ـ انها في مواجهته.

عندما افاقت المؤسسة العسكرية على صدمة تداعيات حرب 2 آب بينها وتنظيم داعش وجبهة النصرة في عرسال، وكشف أسر اكثر من 35 عسكريا ورجل امن وراء الجرود، لم يسعها الا اتخاذ خيارات محددة:

اولها، انها ليست معنية بالتفاوض مع خاطفي العسكريين، وان كانت الطرف الرئيسي في المواجهة وتتحمل ـ وان ضمنا في قرارة نفسها وقيادتها ـ قسطا ليس قليلا من الاسباب التي افضت الى خطف العسكريين. الا انها لا تجلس معهم لاسترجاع عسكرييها.

ثانيها، ليست معنية بالمقايضة، وقد رفضتها منذ اليوم الاول. تفادت الانخراط في الجدل الدائر حول مقايضة طلبها التنظيمان المتطرفان بين العسكريين وموقوفين متطرفين في سجن رومية. قال الجيش انه ليس الجهة المعنية بموقف من مقايضة تعود الى القضاء مرجعية بتها. تتوسل آلية المقايضة احدى وسيلتين: اخلاء القضاء سبيل الموقوفين بلا محاكمتهم، او اقرار مجلس النواب عفوا عاما عنهم ما دام من المتعذر توقع عفو خاص في غياب رئيس الجمهورية وعدم صدور احكام قضائية في حق اولئك.

في ظل حكومة متنافرة حيال طريقة تعاطيها مع الخاطفين وشروطهم، سيكون من المستحيل تفاهمها على استخدام صلاحية رئيس الجمهورية في اصدارمرسوم عفو خاص. في اي من وسيلتي المعالجة القضائية او السياسية قال الجيش انه غير معني بها على السواء.

ثالثها، غداة اقتياد العسكريين الى الجرود، ابلغ الجيش الى المسؤولين الحكوميين انه لا يطلب الا استعادتهم سالمين، وابدى استعداده تنفيذ عمل عسكري. في مرحلة اولى اظهر جهوزا لتنفيذ العمل العسكري في الساعات الـ48 التي تلت خطف العسكريين، قبل ان يباشر اهاليهم تحركهم وتحولهم، من ثم، اداة ضغط على المؤسسة العسكرية والحكومة اللبنانية لحملهما بالقوة على الرضوخ لشروط الخاطفين.

رابعها، ان قائد الجيش العماد جان قهوجي ـ وهو يُحمّل بدوره قسطاً من مسؤولية ما حدث ـ ابلغ الى اكثر من مسؤول كبير اصراره على استرداد العسكريين، وقدم خيارين: احدهما عمل عسكري غير محمود النتائج ومن غير المؤكد نجاحه وربما كان مكلفا بتداعياته في حال اخفق هدفه، والآخر نفاد صبره من ترك خطف العسكريين في مهب الخلافات السياسية بين مؤيد للتفاوض ومعارض له، ومؤيد للمقايضة ومعارض لها. وما دام لا يسع الجيش التحرك من تلقائه، طلب قهوجي غطاء حكوميا وسياسيا لتنفيذ العمل العسكري لتحرير العسكريين لم يُعطَ اياه في اي وقت. ربما بحجة منطقية او واهية ان نتائجه غير مضمونة.

كان قد اعلم المسؤولين ان الجيش نفذ الدور المطلوب منه بسدّ منافذ الوصول الى عرسال، ووضع المسلحين المتطرفين بين فكي كماشة الجيشين اللبناني والسوري، وقطع تواصلهم مع بيئة حاضنة محتملة في عرسال ومخيمات النازحين السوريين فيها وفي جوارها، وحال دون تدفق فائض تموينها الذي يُهرَّب الى الجرود. ناهيك بتطويق المخيمات وعزلها وتعريضها لاعمال دهم متواصلة بحثا عن سلاح ومسلحين.

خامسها، ادراك الجيش ان السلطة السياسية لن تمنحه غطاء كاملا لتنفيذ هجوم عسكري ـ امني على مناطق احتجاز العسكريين. الا انه تحفظ عن اقتراحات سيقت اليه توخت تجزئة العمل العسكري بحيث يؤذن له بتنفيذه في اماكن ويمنع عنه في اماكن اخرى. الامر الذي رفضته المؤسسة العسكرية اذ اعتبرت الهجوم العسكري ـ الامني خطة متكاملة لا تصح تجزئتها ولا اقفال مناطق في وجه الجيش اذ يجد من الضرورة دخولها، ما يشير الى ان الجرود وعرسال في آن في صلب خطته.

وسواء كانت المؤسسة العسكرية جاهزة لتنفيذ المهمة تلك ام لا، الا ان ابداء استعدادها لها كفل رفع مقدار من الحرج عنها في ملف هي اكثر المعنيين به.