انتهت حقبة طويلة ومريرة من الأزمة السورية، أقل ما يقال فيها أنها أنهت سوريا التي كنّا نعرفها، نظاماً ومجتمعاً وحتى جغرافيا. لم تعد سوريا ذلك البلد المترامي الأطراف، الممتلئ بذاته المتشابهة ثقافيّاً ووجدانيّاً. كان الشعب السوري نسيجاً قويّاً متناغماً متأقلماً مع الظلم والطموح في آن. أيّاً كان موقفك من النظام فسوريا تستحق أن تبكي عليها وأن تحزن لخسارتها، فالنظام لم يخسر سوريا لأنه لم يكن يمثّل ذلك الوجدان العريق للشعب السوري الشقيق.
لا نستطيع أن نحتفل بهذه المأساة التي ذهب ضحيّتها مئات آلاف القتلى وملايين المهجّرين النازحين عن سكينتهم وفقرهم، والذين يعتبرون الآن أن ذلك الفقر كان نعيماً أمام أن يخسر الانسان بيته وكرامته ويتشرّد ويتأقلم مع الذل والضياع. إنّه الوجه الحقيقي للنزاع في سوريا لأنّ النظام سيرحل والبيانات اليومية للمؤيّدين ستزول، تماماً كما زالت بيانات التأييد للفلسطينيّين على مدى عقود طوال، وها هي الآن في عالم الغيب والنسيان بعد ويلات سوريا والعراق.
هناك حديث حقيقيّ عن اليوم التالي في سوريا، ولكن ذلك لا يعني نهاية المأساة السورية بل نهاية حقبة وبداية أخرى. واللبنانيّون يعرفون جيّداً الفرق بين الحقبات والجولات، فالحقبة هي مجموعة من الجولات والجبهات. وهذا ما كان يدور في سوريا خلال السنوات الماضية من النزاع والتي شهدت العديد من الجولات، ويتكاثر الحديث هذه الأيام عن نهايتها وبداية حقبة جديدة لسوريا المتقاتلة مع نفسها والمنقسمة على ذاتها بأوجه مختلفة.
ماذا لو رحل الأسد الآن؟ هناك من ينتظر هذا الخبر بفارغ الصبر، وهناك من لا يريد أن يسمع به حتى من باب الاحتمالات. إنّ تلك الرغبة بسقوط الأسد أو بقائه للأبد لا تنفي ضرورة التأكيد على السؤال: «ماذا لو رحل الأسد الآن؟»، لأنّ ذلك ليس احتمالاً من الاحتمالات بل أمر واقع لا محال، وعلى الخصم والمؤيّد في آن أن يكونا مستعدّيْن لمثل هذا اليوم القادم حتماً. إنّنا نعرض لهذه القضية ليس من باب الانخراط في النزاع في سوريا بل من باب الحرص على لبنان. أيّ تحوّلات ستتمّ على المستوى السياسي والاجتماعي وما هو مصير مليوني سوري متواجدين في لبنان؟
هناك أسئلة كثيرة عن ذلك اليوم التالي لسقوط النظام في سوريا أو الدخول في حقبة جديدة من النزاع وعلى كلّ المستويات، الاجتماعية والاقتصادية وعلى البنية السياسية للبنان، بعد أن بدأت ملامح التطيّر تتصاعد مع طروحات سياسية خطيرة ودقيقة حتى في أكثر الأوقات هدوءاً، فكيف في زمن الأزمات والاضطرابات، كالفدرالية والتقسيم وغيرها من موضوعات منتجة للنزاعات والحروب؟ والمعروف أنّ اليوم التالي في سوريا أكثر خطورة على لبنان من سنوات النزاع السوري الماضية.
لا داعي الى الخطاب التخويني في لبنان لأن الثابت هو قلّة العقل لدى معظم الفئات، وهذا ليس افتراء بل حقيقة دفعنا جميعاً مع شطحاتها من هنا وهناك أثماناً كبيرة من حياتنا واستقرارنا واقتصادنا وعلومنا وتقدّمنا بسبب حماقات هؤلاء. وإنّنا نعتقد أنّ لبنان سيدفع مرة أخرى أثماناً عظام مع تهيؤات البعض وأوهامهم وخيالهم الجيّاش. وكأننا لم نتعلّم من دمارنا وقتلانا وجراحنا أو مما نشاهده على حدودنا الآن.
أدعو كل العقلاء في لبنان، إذا كان لا يزال فيه عقلاء، أن يستدركوا ما يخطَّط للبنان بأن يذهب مع الذين سيذهبون، على قاعدة «ما حدا أحسن من حدا»، وأن يدمّر لبنان على رؤوس اللبنانيّين كما دمّرت سوريا على رؤوس السوريين، وأنه سيُسَلَّم حطاماً، لأن هناك في لبنان من يعتقد أن اليوم التالي في سوريا سيكون الفرصة الكبرى في حين أنه قد يكون المحنة الكبرى للبنان. وسيعرف الأقوياء أن الآلاف التي ذهبت الى سوريا أتت بالملايين إلى لبنان، وذكرياتنا حافلة بالنزاع مع الفلسطينيّين، و«بطيخة» الأمس في عين الحلوة خير دليل على مرقد يتسبب به البطيخ في مخيمات النازحين الى لبنان.
إنّ ما نقوله ليس يأساً من لبنان واللبنانيّين بل قلق على لبنان واللبنانيين من أنفسهم المريضة بالمماحكات، والتي لم تعالَج من العنف الذي ارتكبته أو عاشته، وهي تغامر الآن بأجيال نقية لم تلوَّث أيديها بالدماء والدمار، ولم تكن يوماً جزءاً من خراب لبنان. نعم من حقّنا أن نخاف على اللبنانيين الذين يديرون البلاد منذ سنوات بدون حكومة ولا رؤساء أو تشريعات.
لا أعرف كيف أصنّف جهود عموم اللبنانيين غير المتورّطين في لعبة السلطة ومغانمها، من مهن حرّة وقطاع خاص وعاملات وعمّال وموظّفات وموظّفين.. يؤمّنون دورة الحياة في لبنان ويتجاهلون السياسيّين وأزماتهم وادعاءاتهم، بالإضافة الى الطلاب الذين يذهبون الى الجامعات وكأنّ شيئاً لم يكن والبلاد في أحسن حال. لا أفهم ذلك السلوك رغم تقديري الكبير لهم لأنهم هم لبنان الحقيقي الذي نعيش فيه ونتنعّم بخدماتهم فيه. لكنني أخشى أن يأتي يوم يجدون أنفسهم هم الموهومين ويسلبهم أولئك السياسيّون سكينتهم ويسرقون تعبهم، كما فعلوا ذلك مرات ومرات. والسؤال الحقيقي الآن هو: متى يدرك السياسيون أنّ لبنان يسير بانتظام بدون حكام؟ وما مصير لبنان في اليوم التالي لسقوط النظام في سوريا؟