الشاغل للدوائر السياسية تركز في الساعات القليلة الماضية على مسألة المعطيات التفاؤلية التي غزت الاوساط السياسية والاعلامية وأوحت بتوافر مناخات ودنو وقائع لملء الشغور الرئاسي عبر انتخابات موعدها الوشيك اوائل السنة المقبلة على ابعد تقدير.
عليه، راحت هاتيك الدوائر في رحلة بحث وتقص عن الابعاد الكامنة وراء هذه المعطيات المتناثرة هنا وهناك وعن مدى جديتها، وهل تصلح اساسا ماديا للمضي قدما في مشوار التفاؤل الرامي الى وضع حد للشغور الرئاسي الممتد منذ أواخر أيار الماضي.
لكن الدوائر عينها ما لبثت ان عادت من هذه الرحلة باستنتاج جوهره ان جل هذه المعطيات هو فرضيات وتمنيات وربط احداث ومؤشرات لا تصلح لتكون في خاتمة المطاف حكما حازما واستنتاجا يشكل بشرى لمن يعنيهم الامر بأن قصر بعبدا لن يظل مهجورا.
لم يعد خافيا ان رئيس مجلس النواب كان المصدر الاساس لموجة التفاؤل السارية هذه، وهو الذي ما ترك فرصة منذ التمديد لمجلس النواب في الاسبوعين الماضيين الا وتحدث فيها امام زواره او عبر الاعلام عن معطيات في جعبته تشكل اساسا متينا لاطلاق البشرى تلك، خصوصا ان المحيطين به لم ينجحوا حتى الساعة في الافصاح بشكل مقنع عن طبيعة هذه المعطيات الداخلية والخارجية وعن سندها الموضوعي مما سمح لسيد عين التينة بإحداث هذه الموجات التفاؤلية في اوساط سياسية سادها الجفاف وجافاها الحراك المجدي منذ زمن.
أما المعطى الآخر الذي يمكن ان يعتبر مستجدا فهو الاقتراح الذي تقدم به ومن خارج كل الحسابات رئيس “تكتل التغيير والاصلاح” العماد ميشال عون في مقابلة تلفزيونية، معربا فيه عن استعداده للذهاب الى جلسة انتخاب رئاسية شرط ان تكون المعركة محصورة بينه وبين خصمه اللدود سمير جعجع، وشرط ان يتعهد رؤساء الكتل النيابية ألا يخرجوا من الجلسة الا بعد ان ينتخبوا احدهما ليجلس في القصر الرئاسي.
ولم يطل الوقت ليدرك المعنيون ان هذا العرض لم يكن الا من قبيل الرد على التحدي والاستفزاز الذي يمارسه خصوم زعيم التيار البرتقالي ضده منذ فترة، وان الامر لا يعدو كونه مناورة ذكية من جانب هذا التيار بغية جعل الآخرين في موقع الدفاع عن النفس سواء قبلوا المبادرة او ابدوا اعتراضا عليها.
وهكذا ظل التفاؤل كله قائما على امرين اساسيين: الاول، كلام سفراء في الجلسات الضيقة والمنطوية على وعد لبعض المرجعيات المعنية بتحريك ملف الاستحقاق الرئاسي في الاشهر القليلة المقبلة. والثاني، حراك فرنسي متواضع في اتجاه طهران التي ردت وفق معلومات وصلت الى بيروت بتكرار ما سبق لها ان قالته وهو ان على المهتمين مراجعة قيادة “حزب الله” وحلفائه في العاصمة اللبنانية، وهو امر ليس بالجديد لأن باريس وسواها تعرف سلفاً جواب هذه القيادة وهو ان العنوان الصحيح لبت الامر في الرابية حصرا من دون سواها من الربوع اللبنانية. وقد زاد “حزب الله” اخيرا تأكيد هذا التوجه من خلال اعلان أمينه العام السيد حسن نصرالله عن ان مرشحه الحصري للرئاسة هو العماد عون مسميا اياه للمرة الاولى. وهذا التطور اللافت فسره خصوم الحزب على انه استعداد غير مباشر للبحث مع الاخرين عن رئيس توافقي، فيما سارعت اوساط الحزب للقول انه استعداد منه للتعامل بجدية اكبر مع هذا الاستحقاق المهم وقطع الطريق على اي تفسيرات او طروحات واستطرادا أي مبادرات اخرى يمكن ان تطرأ لاحقا خصوصا في اسم المرشح التوافقي.
من الجلي ان الساعات الماضية حملت معها معطى جديداً من شأنه ان يساهم في تعقيد المشهد السياسي المعقد وهو الدعوة التي اطلقتها الرياض في الامم المتحدة لوضع “حزب الله” على لائحة الارهاب الدولي. واذا كانت اوساط الحزب قد اعتبرت سريعا ان هذه الدعوة بلا قيمة مادية بفعل موازين القوى في داخل مجلس الامن وجاهزية موسكو للجوء الى “الفيتو”، فان دوائر في الحزب وجدت في الدعوة السعودية تصعيدا يخفي وراءه مقاصد وأبعاداً، خصوصا ان مبرر الدعوة، أي انخراط الحزب في الميدان السوري المشتعل، أمر ليس بالجديد فهو يعود الى نحو عامين.
وفي كل الاحوال انه عنصر مستجد لا بد من ان تؤخذ تداعياته وابعاده وتأثيراته بالحسبان في الميدان السياسي الداخلي، ان على مستوى الحوار المنتظر حصوله بين “تيار المستقبل” و”حزب الله” او على مستوى ملفات اخرى متراكمة يأتي في مقدمها ملف الرئاسة الاولى الذي هو ملف اقليمي كما هو ملف داخلي.
مهما يكن من امر، ثمة حاجة ملحة عند كل طرف من الاطراف الداخليين لان يطرق باب الانتخابات الرئاسية بلا انقطاع وان يجترح كلاما حوله وذلك انطلاقا من حساباته وتطلعاته الخاصة. فللرئيس بري اسبابه المتصلة بالدور والموقع والقدرة على الفعل والتأثير، وللتيار العوني أيضاً دوافعه للحراك وفي مقدمها السعي الى تبرئة ساحته من تهمة تعطيل هذا الاستحقاق، فيما قوى 14 آذار و”تيار المستقبل” خصوصاً، محكومة دوما بترداد الشعارات التي تؤكد ان موضوع الرئاسة الاولى وملء الشغور هو موضوع حياة او موت بالنسبة اليها انطلاقا من حرصها على الكيان وعلى التوازن السياسي والمؤسساتي فيه. والأكيد ان كل ذلك من شانه ان يخلط بين الاصل والظل أو بين الصوت والصدى في موضوع حساس مثل الانتخابات الرئاسية.