أصبح من الواضح أن الإنهيار الإقتصادي-المالي-النقدي بات على الأبواب. لبنان لم يصل حتى الساعة إلى قعر البئر، إنما هو أصبح في نصفه أو أكثر. والآتي أعظم. كلامي هذا ليس للتخويف، إنما هو تقدير العالمين بشؤون الإقتصاد والمال كافة، من إقتصاديين ورجال أعمال بإختلاف ميولهم السياسية.
ليس للبنان قدرة إحتمال أكثر من شهرين أو ما يقارب. فماذا يعني أن ينهار الوضع؟
القطاع المصرفي ينهار، وهو واحد من ثنائية أعمدة لبنان الكيان والدولة إلى جانب الجيش اللبناني. الفقير يصبح بحالة الفقر المدقع مستعد ليقتل في سبيل لقمة العيش. الطبقة الوسطى تصبح فقيرة، المؤسسات الخاصة تفلس أو تغلق أبوابها وتصرف العاملين فيها وترتفع نسبة البطالة إلى حدود غير مسبوقة، تتوقف الدولة عن دفع رواتب الموظفين بما فيهم الجيش والقوى الأمنية، فينهار العمود الثاني للبنان ويدخل لبنان بحالة فوضى لم ولن يشهدها أي بلد، إذ تكون الدولة قد إنهارت بمؤسساتها كافة في ظل وجود أكثر من مليون ونصف سوري وأكثر من مئتي ألف فلسطيني. في هذه الحال، لن يبقى سوى حزب الله، ولو منهكا، إنما متماسكاً وممسكاً بمناطق نفوذه في ظل غياب الدولة وزوال الكيان اللبناني.
تصبح صورة لبنان على هذه الشاكلة، وبدون أي مبالغة، إذا لم يتم إستدراك الوضع.
من المؤسف ان الطبقة السياسية الحاكمة الفاسدة، بأطرافها كافة، لا تزال تتصرف بخفة مجرمة بحق لبنان واللبنانيين، واضعة مصالحها السلطوية فوق أي إعتبار ومحاولة التبرؤ من دم هذا الصديق: لبنان.
والسؤال الفعلي الذي يجب أن يسأله اللبنانيون هو: ما هو أفضل حل ممكن، وليس أفضل حل بالمطلق؟
المشكلة الأساسية في لبنان تكمن في أن حزب الله الذي يمسك بلبنان، وهو جزء لا يتجزأ من الجمهورية الإسلامية في إيران، يدير أو يتغاضى عن فساد الطبقة السياسية «الحاكمة» من تابعين له أو شركاء مضاربين.
بالمقابل، تطالب الإنتفاضة عن حق بإعادة إنتاج السلطة بدءاً من تشكيل حكومة انتقالية من خارج الطبقة السياسية، يكون من مهامها وقف التدهور والإشراف على إنتخابات برلمانية مبكرة وفقا لقانون إنتخابات عصري.
وهنا، لا بد من التوقف عند حقيقة أن الثلاثي الحريري، جنبلاط، جعجع تبنى مطلب الإنتفاضة بما يتعلق بالحكومة وركب قوارب النجدة (محاولاً ركب باخرة الإنتفاضة) للهروب من تيتانيك السلطة ظناً منهم أنه مهدد بالغرق الوشيك. والحقيقة أنهم داكشوا السيادة والقضية اللبنانية بالكراسي (السلطة والمال) منذ إغتيال صديقي الدكتور محمد شطح الذي، قبيل إستشهاده، كان مع إعتماد سياسة عدم المشاركة في الحكومة مع حزب الله وبالمقابل، إشهار المعارضة والمقاومة السلمية من خارجها. وقد أمعنوا بهذا المسار فعقدوا منذ ثلاث سنوات ونيف، التسوية – الصفقة مع حزب الله فساهموا بوصول الوضع إلى ما هو عليه.
ولكن، هل ممكن تحقيق هذا الهدف؟ جوابي: كلا، ليس الآن. لماذا؟
حزب الله هو الممسك بالسلطة الفعلية وهو كيان عسكري – أمني – سياسي جزء من الجمهورية الإسلامية في إيران. وإيران تعتبر، وهو يعتبر معها، أن ثمة مؤامرة أميركية – إسرائيلية – سعودية عليه وعلى إيران و«محور المقاومة» من خلال إستغلال الإنتفاضة في إيران والعراق ولبنان. في ظل هكذا ظروف لا ولن يقبل بالتأكيد بتشكيل حكومة ليس له فيها اليد الطولى، أو أقله غير مطمئن لها. من ناحية ثانية، طالما تشكيل الحكومة يتم عبر الآليات الدستورية، هذا يعني عملياً أن البرلمان يشكلها ويمنحها الثقة وبالتالي لا يمكنها أن تتشكل عكس إرادة حزب الله كونه ممسك مع المكونات التابعة له، بالأغلبية البرلمانية.
والحقيقة، أن ثمة سباقاً بين تشكيل الحكومة والإنهيار الإقتصادي – المالي – النقدي. والمطلوب حكومة توحي بالثقة للمجتمع الدولي (بشكل خاص لأميركا) وللدول الخليجية (بشكل خاص للسعودية) لكي يمدوها بكمية من المساعدات الضرورية لوقف تدحرج الأوضاع الإقتصادية.
عدم تشكيل حكومة يؤدي بالضرورة إلى الإنهيار والفوضى الناتجة عنه كما تم توصيفها في مطلع هذا المقال.
من ناحية أخرى، إن حكومة اللون الواحد، مشكلة عبر أغلبية حزب الله في البرلمان، هي أيضاً تحجب عن لبنان المساعدات الضرورية لإستدراك الإنهيار وقد تدفع لبنان على سلوك طريق الصين – سوريا – العراق – إيران التي تحدث عنها السيد نصرالله وهي بالتأكيد غير سالكة، وعرة ومدمرة. وفي مطلق الأحوال، تؤدي حكومة اللون الواحد هي أيضاً إلى الإنهيار والفوضى. وقد يستدرك حزب الله الوصول إلى الإنهيار بقلب الطاولة والهروب إلى الأمام، فيشن حرباً على إسرائيل، ولو بظروف غير مؤاتية له، وبالتالي يحشر الجميع دولياً وإقليمياً وداخلياً ويتدوَّل الوضع في لبنان.
أما أميركا – ترامب، فقد دخلت على الإنتفاضة من باب الدعم اللفظي لها (مما أساء إليها وأعطى الحجة لحزب الله ليتحدث عن مؤامرة) بهدف توظيف ما يحدث في إيران والعراق ولبنان في السياسة الداخلية الأميركية لصالح ترامب بالقول أن هذه الأحداث تدلل على صوابية سياسته الفاشلة تجاه إيران.
يتبين إذاً أن جميع الأطراف محشورين في الزاوية والجميع يخسر في حال يتجه الوضع إلى الإنهيار والفوضى، وأن ما من طرف قادر في هذه المرحلة على حسم الوضع لصالحه.
لذا، لا بد من تسوية مؤقتة لحل مسألة تشكيل الحكومة بالسرعة البيانية، تسوية تعكس حقيقة موازين القوى. أراها على الشكل التالي:
– تتمثل في الحكومة مكونات البرلمان بالحد الأدنى من السياسيين التابعين لها وبالحد الأقصى من الأخصائيين ذات الكفاءة والسمعة الطيبة التابعين لها أيضاً، علماً أن الإنتفاضة لا يمكنها أن تحدد من تريد توزيره كون لا قيادة لها ولأنها تصبح، إذا شاركت في الحكومة، شريكاً لمن ثارت عليه وتكون قد عاودت خطأ الثلاثي الحريري، جنبلاط، جعجع.
– لا يعود باسيل إلى الحكومة، إنما يتمثل التيار الوطني الحر فيها.
– لا تعتمد قاعدة تمثيل المكونات السياسية في البرلمان بإعطائهم نفس نسبة التمثيل في الحكومة.
– يتم إدخال أخصائيين في الحكومة لا ينتمون إلى أي من مكونات البرلمان، دون أن يكون هؤلاء ممثلين عن الإنتفاضة.
– يتمثل حزب الله وحلفاؤه كافة بالثلث زائد واحد، ما يطمئن الحزب وما يروق لأميركا – ترامب، فتفرج حينذاك عن المساعدات التي بحاجة لها لبنان.
تضع الحكومة على متن بيانها الوزاري برنامج إصلاحي إقتصادي جدي، واضح، مع خطوات عملية تطبق فور حصول الحكومة على الثقة، تكون بالطبع على حساب الطبقة السياسية الفاسدة وليس على حساب المواطن.
ولكن أين أصبحت الإنتفاضة من كل ذلك؟! هل خسرت؟ ما دورها؟
الجواب: هي الرابح الأكبر. فقد قزّمت القادة – الآلهة ولن يعودوا أبداً إلى سابق عهدهم. أرعبتهم إلى حد أنهم سوف يخافون أن يمدوا أيديهم مجدداً على المال العام.
أما دورها في هذه المرحلة، يكون دور السلطة – المضادة، دور الرقابة والمحاسبة الشعبية: أعينها مفتوحة، تنزل إلى الشارع عند الحاجة، تطالب بالأموال المسروقة وتضغط على السلطة لتنفيذ بيانها الوزاري، منطلقة من مبدأ أن لا ثقة بهذه الطبقة السياسية بمكوناتها كافة ومن قناعة راسخة بضرورة التخلص منها سلمياً عندما تسمح الظروف وتتغير الموازين في مرحلة لاحقة لكي تعود للشعب كرامته وعيشه الرغيد، ولكي يستعيد لبنان نفسه (لبنان كما ظهّرت صورته الإنتفاضة) وإستقلاله وسيادته وحريته وإستقراره وعافيته وبهاءه وجماله وحضارته الأصيلة.
إني واثق أنه حينها، يكون خروج لبنان من كبوته الإقتصادية سريعاً وليس كما يبشرنا به بعض الإقتصاديين. إنني أؤمن بفرادة الشعب اللبناني وعبقريته.