ارتكب مسعود البرزاني غلطة العمر، لكنّه لم ينتحر سياسياً.. حتى الآن!
رَفَضَ قبل الاستفتاء الأخذ بالنصائح والمبادرات التي قُدِّمت إليه وعُرضت عليه من أجل التراجع «خطوة إلى الوراء مقابل التقدّم خطوتين إلى الأمام»، أي إلغاء المرحلة الأولى من مشروع إعلان «الاستقلال» في مقابل فتح النقاش على وسعه مع بغداد من أجل التوصل أو محاولة التوصل إلى صيغة توافقية معقولة ومنطقية و«موقّتة» بانتظار يوم آخر!
وُجّهت إليه «نصائح» كثيرة، وتحذيرات أكثر! ومدّت المملكة العربية السعودية يدها لمساعدته على اتخاذ الموقف الصحّ الذي يضمن سلامة الإقليم الكردي ولا يُعرّض في الوقت سلامة الدولة العراقية لمخاطر كارثية. وزاره وزير الدولة لشؤون الخليج ثامر السبهان في هذا السياق والإطار وسعياً وراء ذلك الهدف. لكنه لم يلتقط الرسالة ولا فحواها! ولم ينتبه إلى أن المملكة خطت باتجاهه خطوة نبيلة منزّهة عن الهوى الخاص. ورفضت استغلال الموقف في وجه إيران مثلاً! أو للضغط في اتجاهات عدّة انطلاقاً من «فرصة» أزمة كبرى سيسببها الاستفتاء، من أجل تحقيق مكاسب خاصة على حساب دماء الكرد والعرب العراقيين.. بل ذهبت بالاتجاه المعاكس تماماً مؤثرة، على دأبها وسياستها، إطفاء الفتن وأسبابها، وليس العكس!
كان في مقدور «الرئيس» البرزاني التقاط طرف الخيط وقبول الوساطة السعودية، طالما أنّها على هذا القدر من الصدقية والجدّية.. لكنه أبى واستمسك بعناده، وذهب مباشرة إلى أقرب لوح زجاج ودخل فيه! أخذته العزّة بالشعبويّة العابرة، وبحساباته الناقصة! وبظواهر الانتشاء «القومي» العارم الذي فَاضَ مع إعلان الاستفتاء وأطفأ الحصافة والدراية المفترض بصاحب الشأن السيادي العام ومالك زمام القرار، أن يتمتع بهما! وأن تكونا عدّته الدائمة في وجه الغلو والغريزة القتّالة والشطط غير المسموح.
بدل أن يكون صمّام أمان، آثر دور صاعق التفجير! وتشبّه في لحظة الاستفتاء، بصدّام حسين! مع أن دنياه مفتوحة. ومستشاريه ليسوا قلّة. ولا مرعوبين من بطشه! ولا تُغْلِقْ أفواههم عن الجهر الصريح، خشية دفع الأثمان المهوّلة! وقصّ الألسن! والردّ برصاص المسدس على خاطرة عابرة أو «نصيحة» صافية قدّمت حفظاً للمصير العام ومصائر العامّة!
سيمرّ بعض الوقت، قبل أن «تُفهم» مغامرة البرزاني! وأسبابها «العميقة»! وسرّ لحظة التخلّي التي سيطرت عليه وأخذت منه حكمة العارف والمجرّب والملدوغ والمُصاب والمطّلع بالتفصيل الممل، على الشاردة والواردة والصغيرة والكبيرة، في تاريخ نضال الكرد وتجاربهم مع المركز العراقي ومع المحيط الجغرافي على حدٍّ سواء..
تلك مآخذ عليه! لكن ما يُحسَبْ له (حتى الآن؟!) هو إقراره «السريع» بخسارته! ثم توقّفه قبل جعل تلك الخسارة كارثية للمجموع الكردي برمّته! والامتناع عن القتال في كركوك أول دلالات ذلك حتى لو ذهب إلى تحميل غيره (أتباع الراحل جلال طالباني) مسؤولية الانسحاب من المدينة النفطية والخطيرة! وحتى لو استعاد نغمة الانقسام الداخلي التي خفتت غداة سقوط النظام الصدّامي في العام 2003!
وليس أمراً بسيطاً أن يرفض صاحب «الأفكار المحروقة»، سياسة «الأرض المحروقة»! أو أن يعرّض أهله وقومه وربعه لمخاطر دفع أثمان أخطائه! أو أن يعتبر أن التماهي تام ومكتمل، وعروته وُثقى ولا تنقطع، بين «مصيره» الخاص ومصير «بلده»!
يُحسب له، أنّه لم يصل في ذلك إلى ما وصل إليه صدّام وبشّار الأسد ومعمّر القذافي والمخلوع علي عبدالله صالح! وإنه عرف في اللحظة «الحاسمة» الفارق بين الخطأ الكبير والخطيئة المميتة! لم يحرق آبار النفط! ولم يفتح النار! ولم يقطع كل الجسور.. والأهم من ذلك، أنّه رمى مسؤوليّة تدهور الوضع باتّجاه الأسوأ، على الآخرين، في بغداد وغيرها!