لم يتوقع كثيرون أن يتحول الاستفتاء المزمع عقده بعد عشرة أيام٬ حول بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي من عدمه٬ إلى كابوس! كانت التوقعات السابقة أن أغلبية كبيرة راضية بعضوية الاتحاد الأوروبي٬ في حين فاجأت الاستطلاعات الأخيرة بأن ميلاً أكبر عند الشعب البريطاني برفضها. وقد تحولت حملات الاستفتاء إلى كرة قدم يتقاذفها السياسيون.
الاتحاد الأوروبي نفسه نموذج معقد من التعاون الإقليمي٬ يتألف من 28 دولة٬ يتحدث أهله 24 لغة٬ مما يجعل الترجمة في عاصمة الاتحاد٬ بروكسل٬ مهنة رائجة حيث يتعين ترجمة كل ما يدور. مواطنو الاتحاد الأوروبي خمسمائة مليون نسمة٬ ومساحته أكثر قليلاً من أربعة ملايين كيلومتر مربع٬ أي ما يعادل تقريًبا مساحة بلدين عربيين فقط٬ الجزائر والسعودية٬ لكنه يعتبر من أغنى اقتصادات مناطق العالم ومستوى دخل الفرد مرتفع.
تاريخًيا٬ علاقة بريطانيا بالاتحاد غير مستقرة منذ البداية٬ ونظرة إلى الخريطة كفيلة بشرح الأسباب٬ كونها جزيرة منفصلة عن اليابسة الأوروبية٬ وتعتبر نفسها في حال دفاع مستمر عن كيانها. عندما تقدمت بريطانيا لعضوية الاتحاد الاقتصادي الأوروبي في عام ٬1963 وقف ضدها رئيس فرنسا شارل ديغول٬ واستخدم الفيتو ضدها. وكان في بريطانيا غضب عليه٬ لأن ديغول الذي كان مطلوًبا من الألمان إبان احتلال فرنسا٬ أعطته بريطانيا كل مساعدة للقتال ضمن دول الحلفاء٬ وهزيمة الألمان٬ وتحرير فرنسا.
وبعد عشر سنوات من الفيتو دخلت بريطانيا الاتحاد الأوروبي٬ ومع هذا لم ترغب الحكومات البريطانية في كامل منافع العضوية وشروطها٬ فطلبت لنفسها استثناءات٬ مثل عدم التخلي عن الجنيه الإسترليني عملة للبلد٬ ورفضت إلغاء الحدود للأجانب٬ واستمرت في اشتراط التأشيرة عليهم.
ورغم هذه الاستثناءات هناك في بريطانيا من لا يشعر بالارتياح لأن يكون أوروبًيا. عندما قررت الحكومة البريطانية استفتاء مواطنيها على البقاء في الاتحاد الأوروبي ربما لم يُدر بخلدها أن تيار الرفض قد يصل إلى هذه المرحلة من النجاح٬ وتنجح الدعاية المعادية للاتحاد لها الأغلبية. وقد تمادى المعارضون للعضوية في تخويف الناس من قضايا مثل المهاجرين٬ والالتزامات الحكومية المالية للاتحاد٬ وكذلك الضرائب٬ كما يفعل مرشح الرئاسة الأميركي دونالد ترمب في الانتخابات الأميركية عندما يعزف على مخاوف المواطنين من المهاجرين من أميركا اللاتينية٬ ومن «المسلمين الإرهابيين».
ولأن احتمال الخروج من الاتحاد بات وارًدا في حال صوتت الأغلبية ضد الاستمرار٬ فإن الحديث هو الآن عن استقراء العواقب. هل سينكمش الاقتصاد البريطاني٬ وهو يتبوأ اليوم المرتبة الثامنة في اقتصادات العالم؟ وهل سينخفض سعر الجنيه الإسترليني؟ وهل ستصبح بريطانيا أقل أهمية على الساحة الدولية؟
لا شك أن لبريطانيا دوًرا مهًما داخل المجموعة الأوروبية ستفقده فور خروجها٬ بما يضعف مركزها العالمي٬ الذي سيقلص نشاطات القوى الاقتصادية معها٬ وكله له آثار سلبية على بريطانيا. دعاة الخروج يقدمون صورة مغايرة٬ بريطانيا ستكون في وضع أفضل لأنها لن تصبح مضطرة للإنفاق على الاتحاد الأوروبي٬ ولن تغرق في بحر من اللاجئين٬ وسيمكن لبريطانيا عقد اتفاقات ثنائية مع الاتحاد الأوروبي تناسبها. كلها وعود تبدو غير واقعية في عالم يعتمد كثيًرا على التكتلات الاقتصادية. الآثار السلبية سواء السياسية أو الاقتصادية ستظهر متأخرة لبلد طالما لعب دوًرا محورًيا في الشؤون الدولية. خروج بريطانيا وإن لم يهدم الاتحاد الأوروبي فإنه قد يشجع على خروج بعض الشعوب المتململة لأسباب اقتصادية أو سياسية. وستكون حافًزا لعلماء الاجتماع كي يدرسوا إشكالات الاتحاد الأوروبي التي رافقته منذ البداية٬ ولا تزال٬ نتيجة اختلافات النظم السيادية٬ والأنماط الاقتصادية٬ والتوقعات المختلفة بين دول المجموعة. الاتحاد الأوروبي٬ كتكتل بشري وسوق موحدة٬ مهم وضخم جًدا٬ إنما يظل مجموعة دول تتأثر بظروفها الداخلية سياسًيا واقتصادًيا التي تنعكس على الاتحاد سلًبا٬ كما حدث مع إسبانيا والآن اليونان. وليست كل الدول تريد أن تكون في الاتحاد٬ فالدنمارك انفصلت٬ وآيسلندا قررت وقف مفاوضات العضوية. وهناك عدة دول أوروبية لم يسمح لها بالدخول٬ وكذلك تركيا التي فيها قليل من القارة الأوروبية٬ لم تكل من طرق باب بروكسل تطالب بالعضوية٬ لكن الاتحاد الأوروبي يراها غير ناضجة ديمقراطًيا.
خروج بريطانيا٬ إن تم٬ سيكون حدًثا كبيًرا وعلامة فارقة في مسيرة القارة الأوروبية وفي مستقبل بريطانيا كذلك.