مضى شهر على انفجار الأزمة الروسية ــــ الأوكرانية التي انعكست مباشرة على كميات القمح المتوافرة حول العالم، وعلى أسعارها. في لبنان، كانت الانعكاسات أكثر حساسية لعدم وجود قدرة تخزينية كبيرة بعد الدمار الذي لحق بإهراءات مرفأ بيروت، وقُدّرت الكميات المتوافرة بأنها تكفي لنحو شهر. يضاف إلى ذلك مشكلة تأمين التمويل بالعملات الأجنبية في ظل النزف المتواصل لسيولة مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. رغم هذا كله، لا تزال السلطة تهدر الوقت في نقاش لا يترجم أفعالاً مقارنة مع دول أخرى، كمصر والأردن، تمكّنت من تحزين كميات وافرة من القمح تكفي لأشهر عدّة.
وتؤكد منظمة الأغذية العالمية (فاو) أن إنتاج القمح حول العالم سيتراجع في المواسم الخمسة المقبلة بنسبة تراوح بين 19% و48%، بالتزامن مع ارتفاع أسعار النفط، وبالتالي ارتفاع كلفة الإنتاج. وتخلص المنظمة إلى وجود أزمة قمح عالمية لأن الإنتاج لن يكفي الطلب الاستهلاكي. هذه المعطيات معلنة، لكن الحكومة اللبنانية قرّرت أن تناقش الأمر بهدوء وكأنها تملك ترف الوقت. ففيما كان الأمر يستدعي اتخاذ قرارات عاجلة وتنفيذها لضمان الأمن الغذائي، ولا سيما أن المخزون المتوافر حالياً قد ينضب خلال المدّة الفاصلة بين عقد شراء القمح ووقت وصوله لأن شحنه يستغرق نحو شهر، تغرق الحكومة في اجتماعات ونقاشات تستنزف الوقت بلا نتائج. فقد اتخذ مجلس الوزراء قراراً منذ أسبوعين بمنح المديرية العامة للحبوب والشمندر السكري في وزارة الاقتصاد سلفة بقيمة 36 مليار ليرة لبنانية لشراء 50 ألف طن من القمح لتأمين حاجة لبنان لمدة شهر. لكن، حتى صباح أمس، لم يكن مصرف لبنان قد وافق على تحويل 26 مليون دولار للحكومة لإطلاق المناقصة. إهدار كل هذا الوقت انعكس سلباً على الكمية التي يمكن أن يشتريها لبنان، إذ ارتفعت أسعار القمح العالمية لتصبح الكمية التي يمكن شراؤها بمبلغ الـ 26 مليون دولار أقلّ. ويشير المدير العام للحبوب والشمندر السكّري جريس برباري إلى «أننا ننتظر منذ أسبوعين تنفيذ قرار مجلس الوزراء لتسييل الأموال. نحن جاهزون وأعددنا كل الإجراءات المرتبطة بالمناقصة». سبب التأخير، وفق برباري، يرتبط بأن «على وزارة المال تصديق السلفة لإقرارها في مجلس الوزراء بمرسوم، وهناك الشق المتعلق بما يجب على مصرف لبنان لتحويل الدولارات المطلوبة لعملية الشراء». وسيؤدي هذا الإهدار للوقت إلى أزمة رغيف في لبنان. إذ إن كميات أقل من القمح تعني مدّة استهلاك أقل وتهافتاً على الأفران.
الوقت عامل حساس جداً للبنان بسبب ضعف قدرته التخزينية. ووفقاً لرئيس نقابة أصحاب المطاحن أحمد حطيط، «وصلت بواخر استوردها القطاع الخاص إلى لبنان، منذ أول من أمس، وبات لدينا مخزون يكفي لمدّة تراوح بين 15 يوماً و30 يوماً. وكلما وصلت بواخر إضافية، يفترض أن يفتح لها مصرف لبنان الاعتمادات وتحويل الدولارات، زادت القدرة التخزينية».
بعد أسبوعين على قرار الحكومة، لم يحوّل مصرف لبنان الأموال المطلوبة لإطلاق مناقصة لشراء القمح
لكن تباطؤ مصرف لبنان لا يتعلق بفتح الاعتمادات للقطاع الخاص حصراً، بل أيضاً يشمل فتح الاعتمادات لحساب الدولة التي ترغب في شراء 50 ألف طن من القمح. وهذه ليست العقبة الوحيدة، إذ إن لبنان قرّر في عزّ هذه الأزمة العالمية أن يشتري وفق استدراج عروض من الهند والولايات المتحدة وكازاخستان بشأن المواصفات والأسعار. ولم يصله بعد سوى العرض الهندي. فإذا تقرّر السير بهذا العرض اليوم، يتطلب وصول الشحنات «نحو شهر إذا أتت من الولايات المتحدة أو من الهند» وفق حطيط، وهذا ما قد يخلق ضغوطاً جديّة على المخزون.
إهدار الوقت يتواصل، فيما تقرّر أن يعقد اليوم لقاء من أجل النقاش في مسألة استيراد القمح!
100 مليون دولار
هي قيمة الهبة التي سيخصّصها البنك الدولي للبنان بهدف شراء 50 ألف طن من القمح شهرياً لمدّة 4 أشهر. تمثّل هذه الهبة «باب رزق» واسعاً في مطحنة الهدر والفساد اللبنانية، ولا سيما أنه لم تتضح بعد آلية الدفع والتنفيذ؛ هناك تلميحات بأن البنك الدولي لن يدخل في عملية الشراء وتفاصيلها، بل سيتركها على عاتق وزارتَي المالية والاقتصاد، أو سيوكلها عبرهما للقطاع الخاص ــــ المطاحن، وهذا يعني إدخال الهبة في قنوات الهدر التي اشتهرت أيام الدعم.