تنوّعت القراءات حول من استهدفَ قرار المجلس الدستوري بشأن قانون الضرائب، بين قائل إنه أصابَ السلطة التشريعية في الصميم وأحدثَ زلزالاً مدوّياً في السلطة التنفيذية، وآخَر رأى أنّه طاوَل مقام رئيس الجمهورية الذي وقّع القانون تمهيداً لنشره وترجم شيئاً ممّا أراده الرئيس قبل أن يتنازل ويغضّ النظر عنه. وعليه كيف قرأ مرجع دستوري كبير المواقفَ الأخيرة ولا سيّما منها موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري؟ وكيف ردّ؟
لا يختلف خبيران دستوريان أو أكثر عند مقاربة عدد من القوانين التي أقِرّت في السنوات الماضية على وجود مخالفات دستورية مستورة فيها.
فالتفاهمات السياسية التي نسِجت من أجلها وتلاقي المصالح عطّل الآليات الموجودة للطعن في دستورية البعض منها، فلم يصل الأمر الى المجلس الدستوري للنظر فيها.
ولمّا وقعَ الخلاف بين مكوّنات السلطة في العامين 2013 و2014 حول دستورية قانون التمديد للمجلس النيابي مرّتين وجِد من تمكّنَ من استيعاب المجلس الدستوري ودفعِه الى تبريره مرّة أولى. وتعطيله مرّة ثانية بتطيير النصاب القانوني الصعب الذي يَحكم عمله ( 8 من 10 أعضاء للنصاب و7 من 10 للتصويت) فعبرت المهل القصيرة المحدّدة له من دون ان يقول كلمته الفصل.
وخلافاً لكلّ ما سبق، ظهرَ جليّاً أنّ القرار الأخير للمجلس الدستوري بإبطال قانون الضرائب بالإجماع أحرَج أهلَ السلطة جميعاً ووضَعهم في موقع لا يُحسَدون عليه.
فتردّد صداه بقوّة داخل الحكومة التي ارتبَكت بعدما ربطت بنحو غير قانوني بين قانونَي الضرائب وسلسلة الرتب والرواتب على رغم الفصل القائم بينهما وعدم دستورية مِثل هذه الخطوة شكلاً ومضموناً، وهو ما زاد حالَ الإرباك والتردد الذي منَع الحكومة من اتّخاذ قرارها النهائي في جلستيها الأخيرتين في انتظار الجلسة المقرّرة اليوم في بعبدا.
ولم تقتصر ردّات الفعل السلبية على الحكومة فحسب، بل طاوَلت مجلسَ النواب، وبعد صمتِِ لأيام دخَل رئيس المجلس النيابي على خط الزلزال بقوّة معتبراً أنّ ما جرى تدخّلٌ في صلاحيات هذا المجلس وضربٌ لاتّفاق الطائف على خلفية «أنّ مَن يحقّ له تشريع النفقات يحقّ له دائماً تشريع الواردات والضرائب داخل الموازنة أو خارجها».
وأضاف بلغةٍ وعبارات حاسمة وحازمة: «لا ننسى أنّ المجلس النيابي هو الذي يسنّ القيود دستورياً وليس من تُسَنّ عليه القيود، إلّا إذا أصبَحت مخالفة الدستور قضية فيها نظر، فحكم المجلس الدستوري لم تأتِ به الملائكة». لكنّ بري شدّد في الوقت عينه على مبدأ «الفصل بين القوانين واستقلاليتها»، فأكّد على الحكومة ضرورة أن «تنفّذ ما ردّدته مراراً وتكراراً لتطبيق قانون سلسلة الرتب والرواتب» بلا تردّد.
وعند التوقّف حول دور «الملائكة» الذين تحدّث عنهم بري توجَّهت الأنظار الى القصر الجمهوري على خلفية أنّ قرار المجلس الدستوري لبّى بعضاً من مطالب رئيس الجمهورية في شكل الضرائب كما طلبها من ضمن الموازنة وتوقيت إصدار قانون السلسلة كما أراده بعدها وليس قبلها كما قال الدستوري.
يقول المرجع إنّ ذلك لا يبدو اتّهاماً صحيحاً أو ناجحاً على الأقلّ، فرئيس الجمهورية الذي أكّد احترامه قرارَ المجلس الدستوري واعتبرَه خطوةً على طريق إحياء المؤسسات الدستورية، من دون النظر في نتائجه، اختلفَت آراء من حوله حول القرار، فاعتبَره وزير العدل «هرطقة دستورية»، وقرأه نوّاب من «التيار الوطني الحر» على أنه إنجاز جاء بقرار دستوري محِقّ على رغم اتهامهم أصحابَ الطعن بالقانون بالسعي إلى «الشعبوية». ولذلك لم تكن مواقف بعبدا والمحيطين بها موحّدة، فسَقطت التهمة عنها بلعِب دور «الملائكة» التي أوحت به.
وبناءً على ما تقدَّم، وعندما طرِحت هذه النظريات مع ما أضيفَ إليها من نظريات تحمي حقّ المجلس في تشريع الضرائب من خارج أو داخل الموازنة العامة على مرجع دستوري عالٍ أجاب ببساطة: «إنّ قرار المجلس الدستوري نافذ على أصله وليس هناك سلطة يمكنها أن تناقش في شكله ومضمونه لأنه لا يَقبل أيّ شكل من أشكال المراجعة، وهو أمر يدركه من هم في موقع المسؤولية ويعرفون مخاطر الخروج عنه، ولا حاجة للتذكير بذلك».
إلّا أنّ الجدل، يضيف المرجع الدستوري، الذي يعتقد البعض أنّه ممكن حول وجوب ان تكون القوانين الخاصة بالضريبة من ضمن الموازنة أو من خارجها لا مكان له في القاموس الدستوري.
وعلى رغم صدور بعض الآراء المؤيّدة للحقّ بفرض الضرائب حسب ما يَرتئيه المجلس عن رجال متمرّسين في الدستور، فإنّ المرجع ردّ ذلك إلى «خلفيات سياسية لا قانونية ولا دستورية»، متسلّحاً بنظرية قوية ومتينة حَكمت قرار المجلس الدستوري «في اعتبار القانون باطلاً، وهي تستند الى ما هو معمول به في «الأنظمة الديموقراطية» التي نصِرّ على اعتبارها مطبّقة في لبنان.
ويقول مستعيراً نصّاً من القوانين الفرنسية التي شكّلت اساساً في النظام القضائي والدستوري اللبناني، وفيه أنّ «في الأنظمة الديموقراطية لا شرعية للضريبة إلّا إذا كانت قد أقرّت الأمة جبايتها بحرية».
ويعود لمجلس النواب أن يعبّر عن هذه الموافقة التي «لا يمكن إلّا أن تكون مؤقّتة، ويجب تجديدها دوريّاً». ولذلك «ينبغي أن تجيز قوانين الموازنة السنوية، لكلّ سنة، تحصيلَ واردات الدولة».
ويضيف النص: «بما أنّ المادة 86 من الدستور، وتأكيداً لهذه القاعدة، نصّت على أنّه في العقد الاستثنائي المخصص لإقرار الموازنة تُجبى «الضرائب والتكاليف والرسوم والمكوس والعائدات الأخرى كما في السابق، وتؤخذ موازنة السنة السابقة أساساً، ويضاف إليها ما فتح بها من الاعتمادات الاضافية الدائمة ويُحذف منها ما أُسقط من الاعتمادات الدائمة، وتأخذ الحكومة نفقات شهر كانون الثاني من السنة الجديدة على القاعدة الاثني عشرية»، فلولا هذا الإذن الاستثنائي لَما أجيز للدولة القيام بالجباية خلال شهر واحد.
وبما أنّ القاعدة الاثني عشرية ورَدت في المادة 86 من الدستور وفي المادة 60 من قانون المحاسبة العمومية الذي جاء فيه الآتي: «توضَع الموازنات الاثنا عشرية على أساس الاعتمادات الدائمة المرصدة في موازنة السنة السابقة على أن يؤخَذ في الاعتبار ما أضيفَ إليها وما أسقِط منها من اعتمادات دائمة»، ما يعني أنّ القاعدة هذه صالحة لشهر واحد فقط، وهي مرتبطة بالدعوة الى عقدٍ استثنائي لإقرار الموازنة، أي حتى آخِر كانون الثاني.
وبما أنه لا يجوز فرضُ ضرائب ظرفياً إنما في اطار موازنة سنوية تشكّل برنامجاً إصلاحياً وإنمائياً واقتصادياً واجتماعياً، بحيث تأتي الضرائب والرسوم وفقَ متطلبات الخطة الموضوعة، وبما أنّ القانون المطعون فيه صَدر في غياب الموازنة وخارجها فقد خالفَ مبدأ الشمول الذي نصّت عليه المادة 83 من الدستور، وكان ينبغي أن يأتي في إطار الموازنة العامة السنوية، وفقاً للقواعد التي نصَّ عليها الدستور.
وخلصَ المرجع الى القول انّه «خلافاً لأيّ رأي آخَر فإنّ الخلاصة من هذا النص تقود الى القول «إنّ القانون الصادر عن المجلس النيابي تحت الرقم 45/2017 هو مخالف للدستور» وهو ما ينطبق على واقع الأمور.
وبما أنّ ما تمَّ إقراره من واردات في قانون الضرائب «جاء خارج إطار الموازنة العامة للدولة، لا بل في غياب هذه الموازنة المستمر منذ سنوات عدة»، فإنّه «لا يجوز للدولة الجباية إلّا بصَك تشريعي يتجدّد سنوياً وهو بالتحديد الموازنة».