IMLebanon

عندما يتحكّم الخارج بالمصير

مصير الشعوب الضعيفة يحدّده اللاعبون الكبار في الخارج، غير آبهين إلا بمصالح بلدانهم.

أحياناً، في ظروف نادرة، قد يكون القرار الخارجي لمصلحة البلد الضعيف، وفي أحيان أخرى، بل في معظم الأحيان، يأتي التدخّل الخارجي مدمّرا لأمن الشعوب وآمالها وطموحاتها الوطنية. مجريات الأحداث في لبنان وسوريا خلال السنوات القليلة الماضية تقدّم مثلين مختلفين عن هذه الحقيقة.

سؤال بديهي تبادر مراراً إلى أذهان اللبنانيين، أو المعنيّين بالشأن اللبناني، مع توالي الأحداث المصيرية في المشرق العربي: كيف تمزّق العراق وتفجّرت سوريا، وهما أقوى من لبنان وأكثر وحدةً وتماسكاً ورسوخاً، فيما بقي الكيان اللبناني الهش عصيّاً على الإعصار المزلزل الذي ضرب المنطقة؟

لو نسبنا الفضل إلى اللاعبين المحليين الممسكين بالسياسة الداخلية لتوصّلنا إلى نتائج مخالفة للمنطق وبعيدة من الواقع. فهؤلاء القادة الموقّرون، على وجه العموم، يبحثون على أدنى مشكلة سياسية ليظهروا عنادهم ومكابرتهم واستعدادهم لمنازعة الآخر حتى النهاية، مهما كان نوع القضية المثارة. هم، بمعظمهم، مستعدّون لتعطيل البلد وإثارة العواصف والتهويل بتهديد الأمن والاستقرار، حتى لأتفه الأسباب.

لا شك بأن قرار الحفاظ على استقرار لبنان وعدم المساس بوحدته الإقليمية هو قرار خارجي، إقليمي ودولي، فُرِض فرضاً على اللبنانيين.

بعكس ذلك، تقدّم الحرب السورية أمثلة حيّة عن الدور الخارجي بأبشع وجوهه وأكثرها تدميراً ودمويّة. بدأت الأزمة السورية صراعاً داخلياً مشروعا وطبيعيا، وعندما تدخّلت فيها الأطراف الدولية والاقليمية بحثا عن مصالحها الخاصّة، تحوّلت إلى أسوأ كارثة إنسانية على وجه الأرض منذ الحرب العالمية الثانية، على حدّ قول وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وهو «شاهدٌ من أهله» وأحد المشرفين المباشرين على تنظيم المجزرة.

في سياق مسلسل الاعتراضات الشعبية المتلاحقة على الظلم السياسي والاجتماعي التي عمّت العالم العربي تحت مسمّى «الربيع العربي»، وقبل تجيير هذه الاعتراضات لمصلحة القوى المتعصّبة والمتخلّفة، نزل قسم من السوريين إلى الشارع. لم يكن حراكهم مجرّد تقليد لأحداث تونس وليبيا ومصر، بل انطلق كتعبير عن أزمة متعدّدة الأسباب في صميم المجتمع السوري.

كان الاقتصاد السوري بحاجة إلى تغيير حقيقي لنقله من اقتصاد منغلق وزراعي، خاضع لهيمنة قطاع عام متخلّف، إلى اقتصاد حديث ومنفتح على عالم التجارة ومصادر التمويل. الانفتاح الانتقائي الذي اعتمدته الدولة في إطار ما سمّي بالإصلاح الاقتصادي لم يؤدّ الغرض المنشود منه، بل ساهم في خلق طبقة طفيلية أثرت على حساب المجتمع. وبقي الفقر المدقع يعمّ ضواحي المدن والمناطق الريفية، لا سيما في الشمال السوري، الذي يشهد الآن أعنف المعارك في الحرب السورية. سنة 2007 بلغت نسبة الفقر في الشمال 15%، وكان فقراء الشمال يمثلون نصف عدد الفقراء في سائر المحافظات السورية.

لم تستطع التجارب الإصلاحية المتردّدة زيادة نسبة العمالة بالتوازي مع الزيادة المطّردة في عدد السكان، فتضاعفت نسبة البطالة خلال عقد من الزمن ووصلت إلى أكثر من 16%، وقد بلغت البطالة بين الشباب 22%.

هذا الواقع الاجتماعي البائس، معطوفاً على التناقضات الطائفية والعرقية وتوق الأجيال الجديدة إلى الحرّية والتغيير، إضافة إلى تربّص المعارضة الاسلامية المحافظة بالنظام، ساهم في إطلاق شرارة الصراع. وإذ انفتح باب المداخلات الخارجية على مصراعيه بالتوازي مع تحوّل الصراع نحو العنف، يصعب أن نجد طرفاً خارجياً واحداً تدخّل في الصراع تدخّلاً نزيهاً لحلّ المشكلة بمعزل عن سياساته ومصالحه الخاصّة.

مشهد المأساة الدامية في شرق حلب يفضح جانباً من هذه المداخلات، ويعرّي على وجه الخصوص الفريق الذي ادّعى أنه نصير للمعارضة وداعمٌ لها. لم يعترف هذا الفريق بالرموز السياسية الهادفة إلى تحقيق التغيير الديموقراطي في البلاد، واندفع بكل إمكانياته وراء القوى الظلامية الموسومة بالإرهاب، ما شوّه صورة المعارضة السورية وجعلها صنوا للإرهاب في أذهان الكثيرين في العالم.

أميركا، التي تعرّف عن نفسها بأنها العدوّ الأوّل للإرهاب في العالم، تتساءل: من هم المعارضون السوريون؟ وهي بالمقابل تدعم فرع «القاعدة» في سوريا وتتعاون مع تركيا لتأسيس دولة «داعش» ورعايتها وتحضيرها ليوم تذبح فيه، ليحلّ محلّها الاحتلال الأميركي المباشر وتقاسم التراب السوري مع الروس.

مأساة سوريا، ونهر الدم الذي سال فيها، يكادان يدفعانا إلى خلاصة واحدة: لا يختلف سحق الشعوب تحت أقدام الأنظمة عن الاستناد إلى دول تتاجر بدمائها.