تزدحم المسافة ما بين حكومتي التكنوقراط والتكنو- سياسية بحسابات معقدة، تتجاوز بكثير الحدود التي يرسمها الناس المشاركون بعفوية في الحراك. لقد أصبح شكل الحكومة المقبلة جزءاً من النزاع المباشر حيناً، والمموّه حيناً آخر، حول الاحجام والتوازنات بين العهد و»حزب الله» من جهة، وخصومهما في الداخل والخارج، من جهة أخرى.
يشعر رئيس الجمهورية ميشال عون أنه نجح في احتواء «العاصفة المفتعلة» التي هبّت على بعبدا بعد مقابلته التلفزيونية الاخيرة، مستفيداً من الأخطاء التي حصلت على الارض، من قبيل بناء جدار «الفصل الجغرافي» في نفق نهر الكلب ومنطقة الناعمة وحصول احتكاك دموي بين شارعين في جل الديب، الأمر الذي أعاد إحياء صور الحرب وأشباحها.
قصة المقابلة
وإذا كان خصوم عون يعتبرون أنه لم يوفّق في مقابلته التلفزيونية مساء الثلاثاء الماضي، ويربطون توتر الشارع المتجدد بما ورد فيها من «مواقف استفزازية»، وفق رأيهم، إلّا أنّ المحيطين برئيس الجمهورية يؤكدون انه كان «متصالحاً مع نفسه، ولو أنّ كلامه أزعج البعض»، مشيرين الى أنه لم يكذب في كل ما طرحه، وبالتالي «نام في تلك الليلة قرير العين».
ويجزم المحيطون بعون أنّ أحداً من مستشاريه أو القريبين منه لم يتدخل في تحديد توقيت أو وجهة المقابلة التي كانت خياراً شخصياً له، خلافاً لكل التأويلات.
وتكشف أوساط عون انّ معلومات موثقة وصلت الى القصر الجمهوري، تؤكد أنّ جهات حزبية تقف خلف تأجيج الاحتجاجات في الشارع أمس الاول، وانّ التحضير للتحرّك الميداني ضد عون بدأ قبل 36 ساعة من موعد المقابلة الرئاسية، على أن يبدأ تنفيذ المخطط فور انتهائها.
ومع تفاقم الأمور في اتجاهات تهدد الامن اللبناني وتنذر بمواجهات أهلية، وبعد شعور الجهات السياسية المعارضة للعهد بالاحراج نتيجة تحميلها تبعات المظاهر النافرة على الارض، صَمّم عون على استعادة المبادرة طالباً من الجيش وقف التفلّت الحاصل، باعتباره مرجعيته الدستورية والقائد الاعلى للقوات المسلحة، ولاسيما في ظل تعذر انعقاد مجلس الوزراء او مجلس الدفاع الاعلى عقب استقالة الحكومة.
عون يحذر
وعُلم أنّ عون حذّر، خلال اجتماعاته واتصالاته بسفراء غربيين وعرب، من انّ طلائع الفوضى في لبنان يمكن ان تشكل توطئة لاستيراد السيناريو العراقي، مشدداً على أنه لن يسمح بالانزلاق الى حرب أهلية، ضمن سياق تأكيده أثناء اللقاء التلفزيوني رفض اي صدام مع «حزب الله» الذي «يمثّل ثلث الشعب اللبناني».
ويؤكد المطلعون على حصيلة «حراك» عون الديبلوماسي انّ العواصم الدولية المؤثرة تَفهّمت طرحه، «ولاسيما أنّ لديها مخاوف من ان يضع «حزب الله» يده على لبنان إذا حصل أي أنهيار أمني، كونه الجهة الاقوى والاقدر على الصمود في مواجهة سيناريو الفوضى الشاملة».
ماذا سمع موفد ماكرون؟
وتفيد المعلومات انّ الموفد الفرنسي سمع خلال زيارته بعبدا كلاماً صريحاً بأنّ مؤتمر «سيدر» والوجود الفرنسي في لبنان يشكلان حاجة لباريس أيضاً، وليس لبيروت فقط، على قاعدة أنه «لم يبقَ لكم في المنطقة من مساحة للدور والحضور سوى لبنان، بعدما أصبحتم خارج معظم الساحات الاساسية في الشرق الاوسط، والتي يتحكم بها الصراع الروسي- الاميركي والايراني- الاميركي».
وفيما بدا موفد الرئيس ايمانويل ماكرون مهتماً بأن تتم ولادة الحكومة الجديدة في اقرب وقت ممكن، كشفت اوساط واسعة الاطلاع انّ الحريري يُجري مراجعة أخيرة لخياراته، موضحة انّ احتمال موافقته على رئاسة الحكومة المقبلة بالتفاهم مع عون والثنائي الشيعي لم يسقط كلياً، «خصوصاً انّ الحريري يعرف ضمناً انّ الاتكال على الاميركيين «المزاجيين» ليس مضمون النتائج ولا يمكن الوثوق فيهم، وانّ ابتعاده سيعني تلقائياً انه يحذف نفسه بنفسه من المعادلة السياسية لحساب اسم سنّي آخر».
وأيّاً يكن الأمر، يتصرّف عون على أساس انّ الوقت حان ليتوقف الحريري عن «الغنج»، ويتخذ القرار النهائي بقبول ترؤس الحكومة المقبلة او الانسحاب الطوعي من السباق الى السراي، مع إبداء الاستعداد لتفهم متطلباته، في حال وافق على مبدأ الحكومة التكنو- السياسية.
الخطة «ب»
ولئن كان رئيس الجمهورية يعطي من حيث المبدأ الافضلية لخيار الحريري، غير أنّ العارفين يكشفون انه يتحسّب لكل الاحتمالات، وبالتالي هو انتهى من وضع اللمسات الاخيرة على الخطة «ب» التي سيباشر تطبيقها، بالتوافق مع الحريري نفسه، إذا أتى ردّه سلبياً، مشيرين الى انّ «خطة الطوارئ» تلحظ تحديد الأسماء الأوفر حظاً التي سيجري اختيار أحدها، والأهم أنها ستحظى بالتغطية الخارجية الضرورية، خصوصاً انّ الاوروبيين والعرب لم يبلغوا الى عون صراحة انهم يتمسكون بالحريري.
وتجزم أوساط عون بأنّ أي حكومة لا يترأسها الحريري لن تكون عدائية، لا ضد المجتمع الدولي ولا ضد الحريري والطائفة السنية، «بل ستكون مدروسة، وقادرة على كسب ثقة الداخل والخارج، بحيث انها ستنطوي على أفضل المواصفات الممكنة وستستطيع إحداث الصدمة الايجابية الكفيلة بإقناع الصادقين في الحراك الشعبي بالخروج من الساحات، وصولاً الى فرز العفويين من أصحاب الاجندات السياسية الذين اندسّوا في هذا الحراك».
مقاربة «الحزب»
امّا «حزب الله»، فيحاول ان يوفّق في مقاربته لمرحلة ما بعد 17 تشرين الاول بين السقوف الآتية:
– التفاعل الايجابي مع المطالب المشروعة للحراك الشعبي وتوظيف طاقته في خدمة معركة مكافحة الفساد.
– منع واشنطن وبعض القوى السياسية الداخلية من استغلال الحراك وتحوير وجهته لتحقيق مكاسب سياسية على حساب الحزب والعهد.
– السعي الى بقاء الرئيس سعد الحريري في رئاسة الحكومة، من دون إدخال تغيير جذري على قواعد الشراكة التي كانت معتمدة الى حين استقالته، وإلّا البحث عن «بديل آمن».
«عايز مِستغني»
وفي مقابل محاولات إقناع الحريري بالعودة الى رئاسة الحكومة، يوحي رئيس تيار «المستقبل» من خلال سلوكه أنه «عايز مِستغني»، الأمر الذي سمح له بأن يكون في موقع تفاوضي متقدم، منحه القدرة على طرح الشروط ودفع الآخرين الى انتظاره والصبر عليه، علماً أنّ هناك ضمن قوى 8 آذار من يرجّح فرضية انّ الحريري يفاوض على حافة الهاوية، «بمعنى انه يمانع في الظاهر، لكنه متحمّس في قرارة نفسه للبقاء في السلطة، كونها باتت تشكل رصيده الوحيد على المستوى الشخصي بعد التغيرات السلبية التي طرأت على وضعه الاجمالي خلال السنوات الماضية».
الاحتماء بالحريري
على الضفة الأخرى، يعتبر مصدر بارز في تيار «المستقبل» انّ «فريق «حزب الله» ورئيس الجمهورية يتمسّك بالحريري لأنه يريد ان يحتمي به، سواء في مواجهة الازمة الاقتصادية والمالية المتدحرجة او على مستوى التعامل مع المجتمع الدولي الذي يحظى الحريري بمكانة خاصة فيه، لا يملكها معظم المرشحين الآخرين لتولّي رئاسة الحكومة».
ويضيف المصدر: الحريري من جهته ليس مستعداً ليعود بشروط غيره، وعلى حسابه، خصوصاً انّ المطلوب منه ان يخفف عن الآخرين عبء التصدي للأزمة المتفاقمة، وان يتحمّل بنفسه مسؤولية كارثة اقتصادية محتملة قد يصعب تفاديها، من دون الاعتراف له في المقابل بحقه في تجديد «عدة الشغل»، بَدل تلك القديمة والمجرّبة.
ويؤكد القريبون من الحريري أنّ موقفه الأساسي منذ استقالته هو «رفض ترؤس الحكومة المقبلة، على قاعدة انّ الناس فقدوا الثقة في الطبقة السياسية عموماً ويجب إعطاء فرصة لبدائل اخرى. لكنه، وأمام إصرار شركائه في التسوية على التمسّك به، ربط عودته الى رئاسة مجلس الوزراء بتأليف حكومة اختصاصيين تصنع الفارق المطلوب والجوهري ولا تكرر التجارب السابقة».
ويعتبر هؤلاء انّ هواجس الحزب مبالغ فيها، وانّ «المسألة لم تعد مسألة بقائه في الحكومة او خروجه منها، بل بقاء البلد او انهياره بالكامل. وبالتالي يجب التعامل مع استحقاق تشكيل الحكومة انطلاقاً من هذا التحدي المصيري وليس من زاوية الحسابات الفئوية»، لافتين الى انه «من الطبيعي ان تحاول بعض الجهات الدولية استثمار الواقع المستجد في لبنان لخدمة مصالحها، إلّا أنّ ذلك لا يعني انّ هناك تواطؤاً أو تآمراً داخلياً على الحزب، إذ انّ حكومة التكنوقراط هي في الدرجة الاولى مطلب شعبي وموضوعي، بمعزل عن اي اعتبار آخر».
ويلفت المحيطون بالحريري الى انّ هناك قوى سياسية لا تزال تتعامل مع ملف تشكيل الحكومة على قاعدة مقعد بالزائد او بالناقص، «في إشارة واضحة الى انها لم تلتقط الرسالة التي أطلقتها الانتفاضة الشعبية وهي انّ مرحلة ما بعد 17 تشرين الاول ليست كما قبلها، وأنّ تحولاً كبيراً طرأ على الواقع اللبناني، ينبغي على الجميع أن يجاروه لا ان يعاكسوه».