لم ينتظر رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل أكثر من 24 ساعة لكي ينقلب على اتفاق التهدئة الذي صاغه مع الوزير ملحم رياشي بمشاركة النائب ابراهيم كنعان. جلس الرجلان بعد طول انتظار وجهاً لوجه في مقرّ تكتل «لبنان القوي»، وليس وزارة الخارجية، في مشهديّة تذكّر برمزيتها بمشهد «استدعاء» رئيس الجمهورية ميشال عون وزير الإعلام وإجلاسه خلف المكتب، خلافاً لبروتوكول لقاءاته الرسمية.
تصارحا وفلشا أوراق التفاهم، بشقّه المعنوي، كما السياسي. عرضا لمنافعه لكل من الفريقين، ومضار الخلاف وانعكاساته على الشارع المسيحي. بدت الحاجة الى «تنكيس» السلاح ضرورية، فاتّفقا على إعلان قرار التهدئة مِن على المنبر لكي يصار الى فرض تنفيذه أمراً واقعاً.
لكن الطبع غلب التطبّع. لم يتمكّن وزير الخارجية من ضبط غضبه و»رفضه الباطني» لـ»إتفاق معراب»، فصوّب احداثيات راجماته مجدّداً الى الضفة الثانية من التفاهم محمِّلاً «القوات» مسؤولية رمي القنبلة اليدوية التي أعادت عقارب الساعة أكثر من سنتين إلى الوراء.
هكذا لم يبقَ «ستر مغطى» بعدما ردّت «القوات» منفِّذة تهديدها كاشفةً الوثيقة السرّية وبنودها غير المعلنة التي اعتُبرت بمثابة ترجمة عملانية لـ»إعلان النوايا»، بعناوينه العمومية والعريضة… وذلك في سياق «حرب التراشق» بينهما بالاتّهامات عن الجهة المسؤولة عن رمي عود الكبريت الأوّل على بقعة زيت «الإلتقاء التاريخي».
لا بل أكثر من ذلك. في إمكان أيِّ «قواتي» أن يحاجج بثقة مطلقة العونيين في هذا السجال: لم تأتِ الرصاصة الأولى من جانبنا كما يصوّرون عقب أزمة الرئيس سعد الحريري في السعودية، وإنما في اللحظة الأولى التي تلت دخول الرئيس ميشال عون إلى القصر.
إذ خاضت «القوات» نزاعاً شرساً في سبيل تكريس ما نصّ عليه الاتفاق لناحية المناصفة في الحكومة، حيث كان يُفترض أن ينال كل فريق ستة وزراء مقابل ثلاثة لرئيس الجمهورية، على أن يتولّى كل منهما منح حلفائه الحصة الوزارية التي يراها مناسبة. الأمر الذي لم يحصل أبداً.
كما في الوزارة، كذلك في «سلال» التعيينات التي أقصى «التيار» آليّتها الحكومية مع العلم أنّ «تفاهم معراب» ينصّ على احترامها، مجيّراً «غلّة الأسد» لمصلحته تاركاً «الفتات» لحليفه المفترض.
عملياً، وحده السؤال عن الأسباب التي دفعت رئيس «التيار الوطني الحرّ» إلى «التنكّر» لتوقيعه قبل «صياح الديك»، هو الذي نافس مضمون الوثيقة السرّية المسرّبة، على رغم إصرار «القوات» على بلع الموسى لكي تمرّر المرحلة بأقل الأضرار الممكنة، فبدا التفاوت كبيراً بين حليفَي الأمس.
الأكيد أنّ الماكينة «القواتية» برعت في تظهير معراب ضحية «الغدر العوني» و»الأم الحريصة» على المصالحة المسيحية، ولو بيّنت التطورات أنّها ليست أكثرَ من اتّفاقٍ سلطوي لم يتمكّن حتى من الحفر عميقاً في القضايا الاستراتيجة التي تُعنى بمصالح المسيحيين… مع أنّ للشق الوجداني مكانته في نفوس أبناء الفريقين.
ما يثير الاستغراب هو الثمن الذي يتكبّده «التيار الحر» من «كيس» صدقيّته بسبب أدائه الانقلابي، وحضوره المسيحي بسبب رجمه التفاهم، خصوصاً أنّ حبر نتائج الانتخابات النيابية لم يجف بعد، حيث دلّت الأرقام الى أنّ الخطابات الهجومية التي شنّها باسيل على جعجع قبل ساعات من فتح صناديق الاقتراع لم تؤتَ ثمارها، لا بل نجحت معراب في لمّ شمل فتات 14 آذار وجذب بعض الحياديّين الذين صوّتوا «نكاية»، كما فعلوا في العامين 2005 و2009 ولكن «نكاية» بالجهة المقابلة.
عملياً، يتصرف جعجع على أساس أنّ الاستحقاق الرئاسي مؤجَّل، وهو مدرك أنّ فرصَه شبه معدومة، لكنه يعمل على مراكمة الحضور الشعبي. بهذا المعنى استفاد من التفاهم إلى أقصى حدوده، بعدما فعلت المصالحة فعلها، الأمر الذي عجزت عنه مسجونيّة 11 عاماً.
في المقابل يتصرف باسيل على أساس أنّ «التيار» حقق مبتغاه من الاتفاق بمجرّد وصول عون إلى الرئاسة فصار عبئاً عليه لا بدّ من التخلّص من وزنه الزائد… وأنّ الاستحقاق الرئاسي حاصل غداً وأنّه صاحب «الحظ الأوفر» لخلافة عون، ولم يبقَ أمامه سوى أمتار قليلة تقتضي بادئ ذي بدء «التخلّص» من منافسيه.
لعلّ التمدّد «القواتي» هو أكثر ما يقلق باسيل، وإن كان يرفض الاعتراف بذلك، مكتفياً بعرض مقارنة الأرقام بين ما حصّله «التيار» من نواب حزبيين وأصدقاء، وبين ما جنته «القوات»، متجاهلاً التراجع الشعبي للتيار البرتقالي مقارنةً بأرقام 2005 و2009، مقابل التوسّع الميداني لـ«القوات».
هكذا، كل ما يهمّ باسيل في هذه اللحظة هو تطويق معراب وسدّ منافذ الخدمات السلطوية أمامها، وهو اعتقد لوهلة من الزمن أنّ في إمكانه إحراجها لإخراجها طوعاً من الحكومة العتيدة وركنها على رفّ المعارضة للسنوات الأربع المقبلة.
ولكن قد يكون هناك سبب مضمر أيضاً، هو الذي يدفع باسيل إلى توجيه أسلحته الى معراب، ويتصل بالملاحظات التي سبق لحليفه «حزب الله» أن سجّلها على مقتضيات التفاهم خصوصاً على الجانب المخفي وقد نفض يديه منه، بعدما ساهمت المصالحة في «تنظيف سِجِل» جعجع وإدخاله على صهوة الزعامة الى الساحة المسيحية.
وها هو باسيل يعيد تصويبَ العلاقة ويرجعها إلى «لحظة الخلاف» الأصلية.
الأهم من كل ذلك، هو ما يحصل خلف الحدود، وتحديداً في سوريا، وكلها تطورات تصبّ في مصلحة «التيار الوطني الحر» الذي يحاول محاصرة «القوات» نفوذاً وخدماتياً، لكنه في المقابل يفتح لها أبواب الحضور الشعبي بسبب سوء أدائه، بينما المنطق يقضي التصرف بهدوء وحنكة واستيعاب.