IMLebanon

متى يولد الرئيس؟

كم أَبهَر شارل دباس الأرثوذكسي البطريرك الحويّك بعدما تولّى سدّة الرئاسة عام 1926، إذ كانت بكركي قد اقترحَت «نجيب باشا ملحمة» للرئاسة تمسّكاً بهذا الموقع للموارنة، لكنّ أخلاقيات دبّاس خفّفت من معارضة بكركي له.

وقبل انتخابه حضر المفوّض السامي Henry de Jouvenel إلى العشاء الذي أقامه نقولا بسترس في قصره، والذي كان يضمّ معظم الذين أصبحوا رؤساء للجمهورية لاحقاً، من بترو طراد وأيوب تابت وإميل إده وشارل دباس وحبيب باشا السعد. وأثناء شربِ المفوّض السامي نَخب إقرار الدستور اللبناني، أكّد أنّ الجلسة المقبلة لمجلس النواب ستكون لانتخاب رئيس الجمهورية، وهو موجود بينَكم واستقرّ إبهامه على مدير العدلية شارل دبّاس، الذي رحّبَ به لاحقاً البطريرك الماروني عندما زارَه بعد انتخابه.

وقد كان دبّاس شخصيةً محايدة خارج نطاق الخصومات، إداريّاً حازماً يعود إليه الفضل في تنظيم شؤون القضاء والمحاماة، وهو تابع دراستَه في الحقوق في فرنسا، عَمِل بصمتٍ، نزيهاً لا يضعف أمام المغريات ولا يطيق المساس بالقوانين، عفيف النفس واليد واللسان، وهو الذي قال بُعيدَ انتخابه «كنتُ موظفاً في العدلية عند الحكومة، وفي رئاسة الجمهورية أنا موظّف عند الشعب اللبناني».

ولما كانت سلطة الانتداب هي من انتخبَت الرؤساء فعلياً، كما حصل مع دباس 1926 وإده 1936 أو عيَّنتهم كما حصل مع حبيب باشا السعد 1934 وألفرد نقاش 1940 وأيوب تابت 1943 وبترو طراد في العام نفسه، إلى إن قَبل إميل إده تعيينَه عام 1943 على رغم معارضة نجلِه ريمون إده بعدما عَلِمَ أنّ والده قبِل تولّي هذا المنصب يوم كان رئيس الاستقلال بشارة الخوري معتقلاً، إلى أن أُفرِجَ عنه في 22/11/1943، هذا اليوم الذي أصبح ذكرى الإستقلال.

وقد أثبتَت كلّ هذه الأحداث في تلك الفترة أنّ رئيس الجمهورية المعيّن أو المنتخَب على أساس أنّه يملك قاعدةً شعبية أو كتلة برلمانية أو لا يملك أيّاً منهما قبل انتخابه، أو قد يصبح شعبياً بعد انتخابه كما حصل مع الرئيس فؤاد شهاب لاحقاً، كما لم يمنع الرئيس المنتخب إميل إده والرئيس الشعبي آنذاك (1936) أن يصبح غير شعبي بعدما تمّ تعيينه خلافاً لإرادة الشعب والأصول الدستورية، وخلافاً لموقف السواد الأعظم من الشعب اللبناني ومن جمهوره أيضاً الرافض هيمنة الانتداب على موقع الرئاسة يوم عيّن رئيساً في 11/11/1943 لمدّة 11 يوم.

وعليه تبقى العبرة لأخلاق كلّ مرشّح أو شاغل لهذا الموقع، فالرئيس السابق ميشال سليمان انتُخب نتيجة إتفاق الدوحة المشؤوم، فيما أثبَت الرئيس الياس سركيس غير الشعبي أنّه رجل دولة بامتياز، فقد حافَظ على قيمة النقد، وهو المعروف بنزاهته وعدم ضعفه أمام المغريات، وقد كان حاكماً لمصرف لبنان قبل إنتخابه، وعاد بعد الرئاسة ليعملَ في القطاع المصرفي، لأنّه لم يكن من الأثرياء، لا بل لكونِه لم يُثرَ على حساب المال العام.

وإذا كان انتخاب أو تعيين بعض الرؤساء قد تمّ خلافاً لنصّ المادة 49 من الدستور، إذ كان شارل دباس يوم إنتخابه مديراً عامّاً للعدلية وألفرد نقاش قاضياً وفؤاد شهاب قائداً للجيش وشارل حلو رئيساً للمجلس الوطني للسياحة والياس سركيس حاكماً لمصرف لبنان… وميشال سليمان قائداً للجيش،

إلّا أنّ كلّ ذلك أوحى أنّ تكرار مخالفة الدستور منذ العام 1926 بالتعيين تارةً أو بمخالفة أحكام المادة 49 طوراً، لم تمنع على بعض هؤلاء أن يكونوا قدوةً في الأداء الوطني والأخلاقي والإداري والسياسي، فلا الشعبية تمنَح أخلاقاً ولا طريقة الانتخابات تصحّح في المناقبية، ولا الكتلة البرلمانية تعطي ثباتاً في الحكم بدلاً من التعطيل، ولا الشعارات البرّاقة يمكن أن تمحوَ التجربة التاريخية السياسية غير المشجّعة في الإدارة والحكم، سواءٌ في السلطة التنفيذية أم في مجلس النواب.

أمّا اليوم وبعدما عُطّل انتخاب الرئيس لمدّة تربو على المئتي يوم بفعل مقامرة البعض على حساب الموقع والدور، وفي إطار إلحاق مزيد من الإضرار في هذا الموقع والدور وبالمسيحيين على حدٍّ سواء ممَّن يدري أو لا يدري بقصدٍ أو بغير قصد، فإنّ الحاجة تبدو أكثر من ملحّة للحدّ من الخسائر، ولرئيس قادر على التعاطي مع جميع الأفرقاء على قاعدة «لبنان أوّلاً» في حياده واستقراره وإعلاء منطق الدولة أوّلاً،

وعلى قاعدة «لا شرق ولا غرب»، بحيث يكون رأس الدولة في التمثيل الخارجي والداخلي سلاحه الدستور والقانون، ودرعه المؤسسات الدستورية وغايته النظام الديموقراطي البرلماني، وأهدافه النهوض بلبنان الدولة والشعب والمؤسسات، يؤسس لثورة في الأداء السياسي يحفّز القضاء على الإصلاح وسلطات الرقابة على التطهير من الفساد، كما يحفّز الشعب على المحاسبة، فلا يعود المواطن ينقّ على أداء الطبقة السياسية التي أوصلها هو إلى الحكم، وهذه مهمّة الأجيال الصاعدة التي بيدِها وحدَها التغيير الحقيقي لمستقبل أفضل، فمتى يولد الرئيس ومتى يولد التغيير الحقيقي؟