لو كان الفساد رجلاً..
الفساد هو استغلال أو إساءة استعمال الوظيفة العامة من أجل مصالح شخصية، ويؤدي الفساد إلى حرمان الدولة من المداخيل أو يزيد من النفقات وهو ما يسبب في تقويض الوضع الاقتصادي، ويحصل ذلك عندما لا تصل الضرائب والرسوم الجمركية إلى خزائن الدولة أو عندما تزيد نفقات المشاريع العامة عن طريق التلاعب بالمناقصات أو إرسائها على المحاسيب أو عندما تنفق الأموال العامة من دون رقابة مالية مستقلة ومسؤولة.
إن أي خطة لمواجهة الفساد تتطلب بالضرورة البدء في استئصال أسبابه لا في استكشاف بعض نتائجه باعتبار أن القضاء على الأسباب يؤدي إلى القضاء على النتائج.
فالسلاح الأول والأفعل لمحاربة الفساد السياسي لا يكون فقط من خلال تحريك القضاء لمعاقبة الفاسدين والمفسدين، بل من خلال النظام الديموقراطي البرلماني الحر. فالمحاسبة السياسية لأي رجل سياسي يجب أن تبدأ من خلال الإرادة الشعبية، التي يجب أن تبقى سلطة المحاسبة الأولى للنواب والمرشحين. أما دور القضاء، فيجب أن يكون استثنائياً في هذه العملية، فيلاحق ويعاقب أي فاسد تمكَّن من اختراق حاجز المصفاة الشعبية، بدلاً من أن تصبح المحاسبة القضائية هي القاعدة والمحاسبة الشعبية هي الاستثناء. ولنجاح المساءلة الشعبية ينبغي إجراء انتخابات حرة ونزيهة، انتخابات تمثيلية بكلِّ معنى الكلمة تؤدي إلى إعادة النظام اللبناني إلى ديموقراطية حقيقية.
وأما محاولة تحقيق الإصلاح في الإدارة أو عملية تقويم الانحراف داخل الإدارة العامة بهدف تحسين أدائها وجعلها إدارة فاعلة وفعالة وقريبة من المواطنين تؤمن لهم أفضل الخدمات في أسرع وقت وأقل كلفة ممكنة، فهي تحتاج إلى قرار سياسي صريح وحازم بتحقيق الإصلاح على أساس خطة واضحة وشاملة ومتكاملة، لأن الإصلاح لا يتم بتدابير مجتزأة لا تتناول الوضع الإداري برمته. بل يجب أن يتناول هذا الإصلاح أركان الإدارة الأربعة: العنصر البشري، القوانين التي تحكم الإدارة العامة، طرق وأساليب العمل، بنية وهيكلية الإدارة. وأن تضمن استمرارية عملية الإصلاح أجهزة الرقابة المستقلة، التي يقتضي تفعيلها ومنحها الاختصاص والسلطات اللازمة للعمل.
واستناداً لهذه القاعدة، فإذا كان الموظف يرتشي وهذا جرم يعاقب عليه جزائياً، ولم يردعه وجود القضاء الجزائي الذي يدخله السجن، وإذا تلكأ الموظف عن تنفيذ معاملة مواطن ولم يبالِ بوجود رئيسه في العمل، وهو الوزير المختص، ولم يأبه لهيئة التفتيش المركزي ولم يلتفت لوجود ديوان المحاسبة والنيابة العامة المالية. فإذا حصل ذلك، نقول بكلِّ ثقة، بأن التقصير هو عند الهيئات الرقابية بالدرجة الأولى. ذلك أن الرقابة القضائية على أعمال الإدارة لا تقتصر على الدور الذي مارسه القضاء الجزائي، بل هناك دور فاعل لهيئات أخرى كديوان المحاسبة وهيئة التفتيش المركزي. فالقضاء العدلي لا يستطيع أن يحاكم، ما لم ترده ملفات من الأجهزة الرقابية، جاهزة بالأدلة والبراهين لتسمح له بممارسة دوره في مكافحة الفساد في الإدارة.
وبعد صدور قانون الإثراء غير المشروع، فإنه أجاز ملاحقة القائمين بالخدمة العامة فهو بسبب الإثراء الناجم عن الرشوة أو صرف النفوذ أو استثمار الوظيفة، أو العمل الموكل إليهم (المواد 351 إلى 366 من قانون العقوبات)، أو بأي وسيلة من الوسائل غير المشروعة وإن لم تشكل جرماً جزائياً، أو عن طريق الاستملاك أو نيل رخص التصدير والاستيراد أو المنافع الأخرى على اختلاف أنواعها، إذا حصل ما هو خلاف للقانون أو نيل أو سوء تنفيذ المقاولات والامتيازات والرخص الممنوحة من أحد أشخاص القانون العام جلباً للمنفعة إذا حصلت خلافاً للقانون.
وقد أوجبت المادة الرابعة من هذا القانون على كل موظف أو قائم بخدمة عامة.. بما فيهم الرؤساء والوزارء تقديم التصريح عن الثروة الذي يعتبر شرطاً من شروط تولي الخدمة العامة.
ولا شك بأن استقلالية القضاء شرط أساسي لأي إصلاح مهما كان نوعه، لأن القضاء يشكل صمام الأمان الذي يفرض احترام القانون على الجميع.
وإذا كان اللجوء إلى القضاء يستسيغه الرأي العام المتعطش إلى دولة القانون والعدالة، فالقضاء بمفرده لا يستطيع منفرداً أن يحلَّ هذه المعضلة الاجتماعية ـ السياسية. لذلك وصوناً للعدالة وحفظاً لهيبة القضاء وصدقيته، من الواجب أن تعمد الدولة بموازاة الملاحقات الجزائية، إلى اتخاذ إجراءات في الحقلين السياسي والوطني، تحول دون تحوُّل الدولة إلى مؤسسة لتنمية الرذيلة أو لمحاربة القيم الأخلاقية.
ولكي تنجح هذه المساءلة يتطلب أن يتمتع هؤلاء القضاة باستقلالية حقيقية وفاعلة تجاه السلطة التنفيذية والتشريعية؛ فلا يكون تحريك ملفات المحاسبة متوقفاً على إجازة ضمنية أو صريحة من السلطة التنفيذية، إذ من غير المقبول أن تنتظر السلطة القضائية تصريحاً من رئيس الجمهورية، مثلاً، بمحاكمة الفاسدين لكي يتحرك القضاء ويبدأ بفتح الملفات الموجودة بين يديه. ولكن المطلوب هو أن يتحرك القضاء تلقائياً فور وصول إخبارٍ إليه بارتكاب جرم أو وقوع ما يوجب الملاحقة، لا أن ينتظر الإذن من سلطةٍ أخرى في الدولة.
علماً أن إعطاء المدى الحقيقي لسلطة قضائية مستقلة فعلاً، هو عبر إقرار تشريع عصري يقضي بإيلاء السلطة القضائية ممثلة بمؤسساتها الذاتية صلاحية تقرير أمورها من كافة جوانبها بصورة منفردة. فاذا كنا نريد في لبنان دولة قانون حقة فعلاً، يحاكم في ظلها كل فاسدٍ ومرتشٍ ومسيءٍ لمسيرة الدولة وحقوق الشعب، فلا بد من استقلال السلطة القضائية وعنوان ذلك ان يتمَّ تكوين مجلس القضاء الاعلى بصورة لا تجعل للسلطة التنفيذية اليد العليا فيه، وهذا لا يتم الا ضمن التطور الديموقراطي.
مطلوب بعبارة موجزة محاكمة الطبقة السياسية في لبنان، لأنه إن لم يحاسَب المسؤولون عن الواقع المزري الذي آلت اليه حال البلاد والعباد، فلا إصلاح يُرتجى على أي صعيد.
والمحاسبة المطلوبة يجب أن تأتي بإجابات حاسمة عن أسئلة محددة تراود كل مواطن: من المسؤول عن الدين العام المتفاقم، ومن المسؤول عن الفساد والافساد، ومن المسؤول عن استشراء المذهبية والطائفية؟
كيف تراكم الدين العام الى حدود 80 مليار دولار، فأوقع مالية الدولة في حلقة مفرغة بين عجز مستحكم ودين متعاظم، علماً أن الدين العام مرشح للتصاعد المستمر سنة بعد سنة باستمرار عجز الخزينة. الدين العام كان يبلغ اقل من مليار دولار عام 1990. فكيف قفز الى حدود 80 ملياراً بعد خمسة وعشرين عاماً من دون أن تعترضه محاولات جدية لوقف التدهور؟ ومن المسؤول عن تعطيل هيئات المساءلة والمحاسبة والرقابة في الادارة، لا بل من المسؤول عن افسادها؟
إن الفساد أضحى مستشرياً في مجتمعنا على وجه مثير للقلق الشديد، وأدهى ما في هذا الواقع الاليم أن الفساد أضحى جزءاً من حياتنا، أو كاد، بل غدا جزءاً من ثقافتنا فأمسى أشبه بالمسلمات. منتهى الفساد أن يكون سمة ثقافة المجتمع، حيث بتنا نسمع بما يسمى «ثقافة الفساد»، التي من مظاهرها المألوفة الرشوة والاثراء غير المشروع وتضارب المصالح والواسطة وسوء التصرف بأموال الغير. وسميت في لبنان المال السياسي، الذي جعل في حالات كثيرة للصوت في الانتخابات النيابية ثمنا وللمقعد النيابي أو الحكومي ثمناً، كما جعل في بعض الحالات للرأي والقلم وحتى الخبر ثمناً وجعل للولاءات والذمم سوقاً، وكذلك للتراخيص والاجازات وشتى المعاملات.
وتتقبل مجتمعاتنا هذه الممارسات والتجاوزات كأنها شأن عادي او طبيعي، فلا نسمع أصواتاً تعترض عليها او تدينها. فأضحى الفساد أشبه بنمط حياة في مجتمعاتنا، وترى الضالعين فيه يحتلون أعلى المقامات والمناصب والمراكز، ومكانتهم في المجتمع محفوظة لا بل مميزة. ومع أنه صدر في لبنان قانون للاثراء غير المشروع وسمي قانون «من أين لك هذا؟» ولكنه لم ينل فرصته من التطبيق.
في لبنان، الناخب، أي المواطن، لا يحاسب النائب الذي يفترض ان يمثله في الندوة النيابية. لو تسأل المواطنين في لبنان عن نوابهم لسمعتهم ينددون بتقاعسهم وعدم فاعليتهم وربما فسادهم، وعندما يحين موعد الانتخابات النيابية ترى الناس يهرعون الى اعادة انتخاب معظم الاشخاص إياهم.
وأيضاً النائب لا يحاسب الحكومة. ففي جلسات المناقشة العامة للحكومة في مجلس النواب، يهاجم النواب الحكومة بأقذع العبارات حتى حدود الشتائم، وعندما يحين أوان التصويت على الثقة في الحكومة يحصل أحد أمرين: إما تمنح الحكومة الثقة بأكثرية موصوفة وإما يضيع نصاب الجلسة فلا تطرح الثقة.
وكذلك فإن الحكومة لا تحاسب الادارة، فليس في لبنان من لا يشكو عقم الادارة وتسيبها وفسادها. مع ذلك فالحكومة لا تقوم بأي جهد للتصحيح أو اصلاح الوضع. فالدرس الذي نستخلصه واضح: اذا كان المواطن لا يحاسب فالمجتمع لا يحاسب، واذا كان المجتمع لا يحاسب فعبثا تنشد المساءلة والمحاسبة الفاعلة على اي صعيد في مؤسسات الدولة.
ونخلص من هذا العرض الموجز أن مكافحة الفساد تتطلب أموراً أربعة:
ـ إصلاح قانون الانتخاب لتصحيح التمثيل الشعبي بحيث يصبح مجلس النواب بأكثريته يمثل الشعب. عندها يصبح المجلس مديناً للشعب ويتفاعل معه، ويحاسب السلطة التنفيذية دفاعاً عن حقوق الناس.
ـ تفعيل الرقابة على السلطة التنفيذية، وتعزيز هيئات الرقابة وتحصينها والاعتماد على العنصر البشري الكفوء.
ـ إعادة النظر في قانون الاثراء غير المشروع الذي جرى تشويهه وافراغه من مضمونه، والسعي إلى إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وقانون محاسبة ناهبي المال العام.
ـ إصلاح السلطة القضائية، لتصبح قادرة على وضع يدها تلقائياً ومن دون توجيهات وارشادات وتنبيهات ومحاباة، ويتمُّ ذلك عبر تحديد مفهوم السلطة القضائية وعدم اقتصار هذه السلطة على القضاة، بل يجب أن نعطي لهذه السلطة حجمها الحقيقي لتشمل القضاة العدليين والإداريين والماليين والدستوريين ونقابتي المحامين، وكبار فقهاء وأساتذة القانون، فيكون جميع هؤلاء أركانا في السلطة القضائية، يمثَّلهم جميعاً المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
ـ الإصلاح الإداري والارتقاء في ممارسة المسؤولية لأن الإدارة تتشكل في أكثريتها الساحقة إن لم تكن كلها من المحسوبين على أطراف الحكم ولو بنسب متفاوتة. والعقدة هنا ليست في ولاء الإداري على أي مستوى كان للحكم فالولاء هو للمرجعية التي كانت وراء تعيين هذا أو ذاك. المشكلة في الإدارة هي في أولوية الولاء للجهة التي كانت وراء التعيين لا للدولة لأن الصحيح أن لا يكون الإصلاح على مقياس الولاء. فهل يقارب الإصلاح الإداري الجديد ميزان العدالة؟
عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية