ماذا حصل عندما وقّع رئيس «العسكرية» أول حكم إعدام وجاهي؟
عندما يحطّ الطيّار خليل إبراهيم في «مدرجات الإرهاب»
على سطح أحد مباني البسطة التحتا، كان ابن الـ15 عاماً الذي انكبّ على متابعة دروسه في هذا المكان قبيل الخضوع للامتحانات الرسميّة، يمارس هوايته المفضّلة بالاستلقاء على ظهره كلّما سمع هدير طائرة. في عقله، كانت هناك جملة واحدة تتردّد: «سأكون يوماً ما أريد».. طيّارا.
أنهى الشاب دراسته في «مدرسة رأس النبع الرسميّة» وبدأ دراسته الجامعيّة في «كليّة العلوم» من دون أن يتحقّق حلمه في الطيران، بل عاد إلى مسقط رأسه بلدة بليدا الجنوبية بعد قبوله أستاذاً للرياضيات في المدرسة الرسميّة، إلى أن حرمه الاحتلال من قريته 23 عاماً (حتّى التحرير) ثمّ من شقيقته التي استشهدت في «حرب تمّوز».
في العام 1977، بدأ الحلم يتّخذ شكل الحقيقة حينما تقدّم لدورة الضبّاط. كان لبس البدلة العسكريّة بالنسبة له، حلماً بحدّ ذاته مارسه منذ الصّغر. كان أوّل من افتتح «الكار» في عائلته، مفضّلا أن يدخل الكليّة الحربيّة من حيث يحبّ: الجيش.
كان اختياره مع 4 آخرين من بين 98 «فليوناً» في الكليّة الحربيّة كي يكونوا ضباطاً في المدرسة الجويّة من بين أجمل الأيّام ولا يضاهيها إلّا حينما حلّق للمرة الأولى في السّماء.. فصار ما يريد.
تغيّرت المناصب وتكّدست الترقيات حتّى صار نائب قائد القوّات الجويّة: العميد الرّكن الطيّار خليل ابراهيم.
ومن الطيران كانت النّقلة النوعيّة حينما جلس لستّ سنوات متتالية عضواً دائماً في محكمة التمييز العسكريّة، معاصراً فيها 4 قضاة. توغّل الرّجل في القانون إلى أن جاءه يوماً واحدٌ من أبرز محامي «العسكريّة» ليهمس في أذنه متوقعاً له أن يكون رئيساً لـ «العسكريّة».. وهكذا كان.
في منصبه الجديد، فعل ما نصحه به أحد القضاة. كان الدّرس الأوّل قاسيا. جلس ما استطاع إليه سبيلاً داخل غرفته مع ما يحتاجه من أكلٍ وشرب ومن دون أن يخرج منها إلّا للضرورة القصوى. كان «أبو محمّد» يريد أن يعرف ماذا يعني السّجن، وماذا يعني أن يحكم على الشخص بعقوبة كهذه.
وما إن خرج من غرفته حتّى اتّصل بأحد أقاربه المحامين كي يتوسّع أكثر في دراسة القوانين الجزائيّة، إلى أن صار بعض المحامين يستعينون به في مرافعاتهم وصياغاتهم!
كان التعلّم الدائم سرّه الدائم. لم يتوانَ عن الطّلب من مهندسي اتّصالات في قيادة الجيش أن يعطوه دروساً لأيّام كي يهيئ نفسه لاستجواب طارق الربعة باعتباره مهندساً في الاتصالات.
وللأسباب عينها، تبدو طاولة ابراهيم مكدّسة بالكتب القانونيّة، وحتّى بكتب الطبّ الشرعيّ التي يعود إليها دائماً، حتّى أنّ أحد الأطباء الشهود داخل المحكمة سأله حينما كان يستوضحه في إحدى الجرائم: «هل أنت طبيب شرعي؟».
هكذا استطاع ابراهيم تثبيت رجليه داخل «العسكريّة» حينما تسلّم رئاستها في العام 2012 بـ «إرث» 5800 ملف متراكم من العهد القديم، وصارت في زمنه تستجوب «كبار الإرهابيين» وتحاكمهم.
في سجلّه أكثر من 25 ألف حكم في أقلّ من 4 سنوات (قد يصل عدد المدعى عليهم في حكم واحد إلى 50 مثل ملفّ عبرا). بالنّسبة إليه، المحكمة ليست شحطة قلم أو أداة للعقاب من أجل العقاب، بل للتقويم..
يميّز ابراهيم بين ما يُكتب على الورق من تحقيقات والماثل أمامه، بين الشاب المعتنق الأفكار المتشدّدة والشاب النادم لأنّه أضاع مستقبله، وبين أنواع من الإرهابيين: المغرّر بهم والمتعطشين للدمّ والمنغمسين.. هو المعروف عنه بسعة صدره، والمردّد: «إذا لم تستوعب الدولة بعض الخارجين عن القانون، فمن سيستوعبهم، ويؤكّد لهم أنّ الدولة لا تظلمهم بل تتعاطى معهم على أنّهم ناس؟». عليه، ليس مستغرباً أن يتجرأ ابراهيم على الحكم بالبراءة لكثيرين، ونعيم عبّاس واحد منهم (في ملفّ عبرا).
«لم أنم»!
لا ينكر إبراهيم أنّه تأثّر بالكثير من المدّعى عليهم من دون أن يكون بمقدوره أن يحكم بغير العدل. يكفيه أن يكون ضميره مرتاحاً. هو الذي لم ينم وانفرد بنفسه لساعات طويلة حين وقّع أوّل حكم إعدام وجاهي، مع إدراكه بأحقيّة حكم لن ينفّذ وإلّا لكان مجبراً على حضور عمليّة الإعدام، وهنا الطّامة الأكبر. لذلك يعتبر أن الحبس المؤبّد «هو الحلّ الأنجع».
روايات كثيرة عن رئيس «العسكرية» ينفيها هو بينما يؤكّدها المحيطون به، كأن يقوم بدفع كفالات من جيبه بعد تخفيضها لمدّعى عليهم يفضّلون الحبس «لأن ما معنا»، وأيضا مع أجرة نقل الموقوف إلى بيته!
لرئيس «العسكريّة» وجهٌ آخر. الضابط ذو النجمتين والسيف سريع البديهة.. والنّكتة. يسخّر الرّجل ذكاءه الحاد و «هضامته» وحزمه وهو «يقارع» الموقوفين. يختار إحداها ليبدأ الاستجواب، ثمّ ينتهي كأنّه رجل آخر.
«ذاكرة فيل»
الرّجل المدخّن بشراهة يجبر نفسه على نسيان سيجارته لأكثر من 8 ساعات ولثلاثة أيّام أسبوعياً، ليضيف إليها يوماً رابعاً من خارج جدول الأعمال لعقد جلساتٍ استثنائيّة. هدفه واحد: إنهاء الملفّات بأسرع وقتٍ ممكن، ولو على حساب صحّته في الكثير من الأحيان أو الجلوس من العاشرة صباحاً وحتى وقت متأخر ليلاً على قوس المحكمة.
برغم التعب والإجهاد، لا يفقد «الجنرال» تركيزه للحظة. يبقى متيقظاً لأي تفصيل. ما يدهش الموجودين في قاعة المحكمة هو «ذاكرة العميد». حوادث تتكرّر حتّى يبدو الحديث عن ذاكرته في أروقة المحامين أنها «ذاكرة فيل»! لا ينسى هؤلاء مثلاً حادثة إصرار أحد المحامين بأنّ موكّله لم يقل هذا الكلام إلى أنّ طلب منه «العميد» مراجعة الملفّ. بعد وقتٍ وقف المحامي ليعتذر من ابراهيم!
في إحدى الجلسات، كان من المفترض أن يتذكّر الشاهد رئيس «العسكريّة»، ولكن حصل العكس، حينما قال له الأخير: «ألم تتذكّرني، رأيتك مرّة منذ 25 عاماً»!
يعرف ابراهيم كيف يستغلّ ذاكرته لربط الملفّات المتشعبة في عالم الإرهاب. أن يقرأ اسم أحد المطلوبين في إفادة أو يستجوب أحد المدّعى عليهم، فهذا يعني أن يتذكّر كلّ تفصيل يتعلّق به في ثانية واحدة!
ولذلك، لم يكن مستغرباً حينما تورّط أهمّ الإرهابيين نعيم عباس أثناء استجوابه في ملفّ اغتيال اللواء الشهيد فرانسوا الحاج. حينها، ذكّره رئيس المحكمة بحادثة قديمة تثبت عكس إفادته، حتّى قال له عبّاس: «إنتَ مش هيّن».
ومن المحكمة إلى المنزل، تلاحقه الملفّات القضائيّة التي يتمعّن بها ويكتب ملاحظاته، قبل أن يعود إلى مكتبه في الصّباح الباكر كي يستقبل المحامين والشاكين. يلاحق الرّجل الشكاوى الواحدة تلو الأخرى، لتسعفه ذاكرته في حسم خياراته: إخلاء سبيل أو ردّه.
يصل الرّجل ليله بنهاره، حتّى اضطرت زوجته يوماً إلى الاتصال بمدير مكتبه مطالبةً إيّاه بإعطائها موعداً رسمياً كي يكون بمقدورها لقاء زوجـها «على رواق» لبعض الوقت!
لا يرتاح ابراهيم إلّا في المكان الذي يحبّه: في منزلٍ أمضى في تشييده أكثر من 6 سنوات يطلّ على فلسطين من جهة وعلى الجولان المحتلّ من جهة أخرى. يفتح ابن بليدا الباب ليستقبل ويودّع «أولاد الضيعة»، بين أشجارٍ اختارها وزرعها ويهتمّ بها، أناس يفضّل طينتهم الطيّبة على المراكز والحياة الفارهة.
بعد 10 أيّام، يحال «الجنرال» الى التقاعد. في «العسكريّة» الكثير من الملفّات التي تابعها حتّى حفظها عن ظهر قلب، وسؤال عمن سيأتي من بعده، ليكمل مهمته؟