Site icon IMLebanon

عندما تموت الأحلام وتبقى الأدوات..

علينا التّوقف قليلاً وربما طويلاً, لأنّ التّحولات التي تحدث من حولنا تجعلنا نقف أمام أفق غامض وصعب ومأساوي أكثر من أي وقت مضى, فنحن نشاهد في لحظة واحدة أكثر من نكبة أو نكسة أو هزيمة, وعلى ما يبدو أنّ ما حدث في فلسطين قبل عقود, هو النموذج أو المصير المحتوم لكلّ شعوب المشرق العربي, والتي أصبحت موزّعة بين عرب إيران وعرب تركيا وعرب إسرائيل وعرب الأكراد وبقبعات إسلامية ومسيحية ويهودية ومذهبية وقومية, إنّ المشرق العربي الآن هو أشبه بتجمّع شعوب مؤقتة في كيانات مؤقتة، وهو أقرب إلى إعادة تكوين قبائل رُحّل بأسماء جديدة.

علينا أن نتوقف عن الهروب إلى الأمام طالما أنّ الطريق كانت من أولها مليئة بالأخطار والويلات, مما يعني أنّها ليست الطريق الصحيحة وأنّنا نسير بالإتجاه الخاطىء طالما لم نحقّق أي حلم من أحلامنا، لا بل مشينا بجنائزها ودفناها حلماً تلو الآخر، وأصبحت مدافن أحلامنا وقضايانا وحدها العلامات المتروكة وراءنا تدلنا على الطريق إذا أردنا أن نعود أدراجنا لنبحث عن الطريق الصحيح لنا ولأطفالنا وبلادنا.

عقود طويلة ونحن نولّد أحلاماً ونحولها إلى قضايا ونستحضر أدوات لتحقيقها, فتموت الأحلام والقضايا وتبقى الأدوات, حتى أصبح لدينا جبالٌ من الأدوات ولم يعد لدينا لا أحلام ولا قضايا, أين أحلام الوحدة العربية؟ ذلك الحلم الذي وُلد في ٢٢ شباط عام ٥٨ ومات في ٢٨ أيلول ٦١, مات الحلم وماتت القضية وبقيت الأدوات من أحزاب قومية وأنظمة وحدوية وأدبيات وتعابير وقصائد وأنشودات وأفلام وأغاني، كلّها بقيت كأدوات إلاّ أنّ القضية ماتت والحلم أيضاً قد مات.

أين حلم تحرير فلسطين؟ القضية المقدسة للشعوب والعقائد والأديان والدول والزعامات والجيوش. كان حلماً حقيقياً ولد مجدّداً بعد النكبة عام 48 مع العدوان الثلاثي  عام ٥٦ ومات في الخامس من حزيران عام ٦٧ يوم إعترفتْ دول التحرير بدولة إسرائيل رسمياً بقبولها القرار ٢٤٢ لعام ٦٧ والذي تضمن في فقرته الاخيرة «إحترام حدود جميع الدول», يعني التسليم من قبل دول تحرير فلسطين بإسرائيل دولة شرعية بحدود الرابع من حزيران ٦٧, والمضحك المبكي أنّ إسرائيل حتى الآن لم تعترف بحدود دول التحرير، بل ذهبت أبعد من ذلك, فضمت الجولان, واستوطنت في الضفة الغربية والقدس, وبذلك تكون القضية ماتت عند الدول وبقيت أدوات القمع والتخلف باسم تحرير فلسطين. ثم حلم المقاومة الفلسطينية والكفاح الشعبي المسلح وتنظيماتها الفدائية  ووراء العدو في كلّ مكان، والطرقات التي تمرّ بجونية وغيرها، ووعود النصر، والشعب الذي قرر أن يحمل قضيته بنفسه حتى جاء الاجتياح الاسرائيلي عام ٨٢ ماتت القضية وشيعت إلى مثواها الأخير في تونس وبقيت الأدوات ومات الحلم والقضية.. وما زالت الأدوات تتكاثر كيانات وانتفاضات وتتعاظم رغم موت من مات.

أين حلم الدولة اللبنانية ذات السيادة والوحدة؟ التي ولدت في ١ أيلول ١٩٢٠ وتحولت إلى قضية وتجربة حَداثية بكلّ ما للكلمة من معنى، فكان الميدان المعرفي حقيقياً في تجربة المكوّنات اللبنانية علماً وأدباً وإبداعات وحريات وتداخلت التجربة لتكوَن ثقافة وطنية, إستطاعت توليد مواطنية لبنانية في إطار دولة تشبه مجتمعها في ٢٢ تشرين الثاني ١٩٤٣ وأصبحت الوحدة الوطنية قضية حقيقية والدولة المستقلة حلم جامع, ماتت الوحدة الوطنية عام ٥٨ في النزاع المسلح الأول ، ثم ماتت الدولة الوطنية بموت سيادتها مع توقيع اتفاق القاهرة عام ٦٩، أين حلم الدولة التقدمية واليسارية؟ والذي كان حلم جماعة كبيرة من اللبنانيين.. مات الحلم مع عسكرة الأحزاب, ثم مع اغتيال كمال جنبلاط ماتت القضية والحلم وبقيت الأدوات، أحزاب وقيادات. أين قضية الحرمان ؟ التي كادت أن تجمع كلّ لبنان في حلم تحقيق العدالة الإنمائية لكلّ اللبنانيين بدون إستثناء إلى أن جاء إختفاء الإمام موسى الصدر، فماتت القضية وبقيت الأدوات. وكذلك أين حلم اليمين اللبناني؟ الذي أراد دولة ليبرالية بعيدة عن الشيوعية.. وأيضاً كانوا جماعة كبيرة جداً من اللبنانيين, مسلمين ومسيحيين, وجعلوها قضية 10452 كم2 إلى أن اغتيل بشير الجميل، مات الحلم وماتت القضية وبقيت الأدوات والقيادات بدون حلم وبدون قضية.

أين حلم تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي؟ الذي لا نعرف حتى الآن لماذا بقي في لبنان ١٨ عاماً بعد تحقيق أهدافه في العام ٨٢ وخروج منظمة التحرير من لبنان.. فأصبح التحرير قضية وحلماً وتكونت أدوات ومقاومات ثم مقاومة بعينها وخرج الإسرائيلي عام٢٠٠٠ وتحررت الأرض, وكان البلد أعيد إعماره وكدنا نعيش الحلم ونحقّق القضية بتحرير لبنان من اسرائيل وتنفيذ معاهدة الأخوّة والتعاون مع سوريا وصدر نداء بكركي, وكانت البلد في حال من الازدحام والأحلام والإنجازات, وبدأنا نتحدّث عن قدرتنا على الإنتصار لقضايانا وتحقيق أحلامنا وكدنا نعرف الفرق بين من يحقّق الأحلام ومن يعيش الأحلام, وأنّه أصبح لدينا دولة ومؤسسات وانتخابات وباريس واحد واثنين. فكان اغتيال رفيق الحريري، فمات الحلم وماتت القضية وبقيت الأدوات.. ثم احترقت سوريا ونُسِيتْ القدس وذهب إليها من ذهب، وبعد أن كنّا شعباً واحداً في دولتين ، أصبحنا شعباً واحداً بدون دولتين، والزبداني ونبل والزهراء وغيرها أصبحت دير ياسين أو أمّ الفحم أو الكرنتينا أو الشّحار وغيرها.. وها هي إسرائيل ترقص فرحاً وتحشد قواتها لتدّق أبوابنا من جديد مع الأسف الشديد..

إنّ ما نعيشه الآن في لبنان هو تعاظم الأدوات من أحزاب وأعلام ومظاهرات وأسلحة ومتفجّرات وأحقاد وشتائم، تحدث جميعها ضجيجاً كبيراً وكريهاً وبدون أهداف, وهكذا تكون المأساة عندما تموت الأحلام والقضايا وتبقى الأدوات..