هل تبدّلت السياسة الأميركية المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط، قولاً وفعلاً مع مجيء الرئيس- المفاجأة ترامب، إلى موقع الرئاسة الأميركية، وهل تمكّن بعد مرور كل هذه الأشهر على انتخابه من إحداث ذلك الإنقلاب على سياسة وممارسات سابقيه من الرؤساء والساسة الأميركيين.
مع مجيء ترامب، أمِل الكثيرون بإحداث تحولات جذرية تنتفض على منهجية التخاذل والتراخي الأوبامية، وسلوكها لمسيرة شبه معادية، تجاه مجمل القضايا الأساسية التي واجهها العالم العربي في تلك المرحلة، حيث لم يترك جهدا يعتب عليه تجاه إصراره على توقيع المعاهدة النووية مع إيران وفتح صفحة جديدة معها تتنكر للمصالح العربية وحماية وجودها من الهجمة الإيرانية الشرسة على العالم العربي في محاولة منها لاستبدال ما أمكن من معالم وأساسيات الوجه العربي والإسلامي في مجمل هذه المنطقة من العالم تحقيقا لرغبات دفينة لدى الإيرانيين باستعادة مجد الأمبراطورية الفارسية، بأوجهها وجذورها الإتنية والمذهبية.
إضافة إلى أن أوباما قبيل رحيله غير المأسوف عليه، قد تجاوز كل الصلات والعلاقات عميقة الجذور مع معظم بلدان العالم العربي، وتخطّى كل المبادىء الخلقية والإنسانية، وأغمض عينيه وضميره عمّا لمسه من تصرفات إجرامية قام بها النظام السوري ضد شعبه مستعملا تكرارا، السلاح الكيماوي الذي لطالما اعتبره الجميع، ومن بينهم الولايات المتحدة الأميركية، خطاً أحمر لا يجوز لأحد أن يتخطاه ويتعامى عن رؤيته فهرب أوباما إلى النقيض وحاول استيلاد «مجد» ملوّث، متجاهلا دماء الابرياء وحقوق الشعوب بالحياة الحرة الكريمة، فضلا عن تحجيمه وتصغيره لدور الولايات المتحدة في المنطقة وفي العالم.
حتى إذا ما اخترق الرئيس ترامب جدار التوقعات من خلال آرائه ومواقفه وتوجهاته التي اتصفت في مرحلة الإنتخابات الرئاسية، بملامح مناقضة تماما لملامح الراحل أوباما، مبدياً بشكل خاص، مناهضته الشديدة للإتفاق الأميركي – الإيراني وخفاياه وخباياه، ومبادرا إلى التجاوب مع الرغبات العربية والإسلامية بوضع حد للتعديات التي بدأت تمس أمنها ووجودها بجملة من الأخطار التي تمثلت، خاصة في كل من اليمن والبحرين والسعودية وسوريا ولبنان، وتطورت إلى حدود أسفرت عن حروب واحتلالات واضطرابات أمنية شديدة الوطء والخطر والضرر، وكان المؤتمر الأميركي-السعودي الذي عقد في المملكة بحضور معظم الدول الإسلامية وبمشاركة شخصية من ترامب القادم حديثاً إلى موقع السلطة، مؤشراً هلّل له العرب، وكان مناسبة انطلقت من خلال ذلك المؤتمر الإسلامي الشامل لمواجهة الإرهاب الداعشي الذي أقبل إلى المنطقة وإلى العالم بوجهه الإجرامي البشع، ولإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها ما بين معظم الدول العربية والولايات المتحدة، واعتقدنا جميعا أن ترامب قد قلب بهذه المواقف المستجدة، معظم صفحات أوباما السوداء، وبدأت تتخذ لها ولمصالحها في المنطقة رؤية جديدة مختلفة.
ولئن كنا جميعا على علم مسبق بأن ترامب يعاني من مشاكل داخلية تتناول توجهاته وآرائه ومواقفه، وتتهمه بعلاقات قديمة- حديثة مع روسيا وبأن مؤازرتها في تحقيق النجاح في الإنتخابات الرئاسية، قد حصل عليه من خلال تفاهم وتعاون ما معها، فإن الرئيس الأميركي الجديد سريعا ما اكتشف أنه ما زال، غارقا في غمار هذه التهم، وما زال حتى الآن يحاول تخطيها والتغلب عليها، وأن معاناته الداخلية قد لجمت الكثير من اندفاعاته وسياساته التي أوصلت جرأتها وطموحاتها، عالية الوتيرة، إلى الإستحواز على غالبية مكّنته من التغلب على خصمه السيدة كلينتون، مرشحة المؤسسات الأميركية (الإستابلشمنت) الممسكة أساسا بالخيوط الرئيسية للسياسة الأميركية، وبالتالي المرشحة الكلاسيكية الطابع والنهج في مواجهة رئيس مثّل لشريحة واسعة من الأميركيين نموذجاً مختلفاً بخروجه عن الطابع العام الذي فرضته تلك المؤسسات المتغلغلة في صلب القرار الأميركي الاستراتيجي.
أين نحن الآن من كل هذه الأوضاع التي استجدت بعد وصول ترامب إلى حكم الدولة الأعظم؟ وما هي المستجدات التي طاولت العالم العربي وقضاياه ومصالحه الصغرى والكبرى من خلال أفول سياسة أوباما، وهل حصلت فعلا تلك التحولات التي سارع العالم العربي إلى السعي إليها والفوز بما أمكن من بعض إيجابياتها على أحوالنا وقضايانا؟
يلاحظ المراقبون تراجعات أساسية لترامب في الداخل الأميركي وخارجه، ربما كانت مفروضة عليه من خلال ترجرج أوضاعه الداخلية، كما يلاحظون تقلبات سريعة الحصول والوقع في معظم مواقفه الأساسية التي لطالما نادى بها قبل وأثناء وبعيد العملية الإنتخابية التي أوصلته إلى السلطة. تصريح انقلابي ناري يطلقه اليوم، ليرجع عنه أو ليعدّله أو يلطّفه في الغد، أو ليبرز له أحدٌ من قادة إدارته السياسيين والأمنيين ليناقضه وينتقده في مواقفه، وهكذا كان على ترامب أن يعمد إلى التحايل على سياسة المؤسسات الأميركية القابضة ومماشاتها إلى أقصى الحدود الممكنة، والتي لطالما تمثلت في مواقف وتصرفات الرئيس الراحل أوباما، بصدد الإتفاق النووي مع إيران وبصدد المأساة السورية، التي تسبب أوباما باستمرارها وبتسليم أوضاعها إلى روسيا التي حولتها إلى مستعمرة حديثة الشكل، دموية الأساس. ها هو ترامب ينقلب بتصرفاته العملانية على الأرض السورية ذئباً آخر كالذي كان قبله، متغافلاً عن كل الموبقات التي يمارسها النظام في سوريا بما فيه استمراره باستعمال الأسلحة الكيماوية والقصف المجنون على المدن والقرى وعلى مدنييها الذين يسقطون يوميا بالمئات بمعاونة وتوجيه وتغطية شريكه في الإستيلاء على ما أمكن من الجبنة السورية، الرئيس بوتين.
أما بصدد الحرب القائمة في اليمن والتي تشارك في تأجيجها إيران، فإن الضوابط التي تمنع السعوديين وحلفاءهم من إنهاء وضعها عسكرياً، يأتي نتيجة لقرار أميركي صارم ما زال يحول دون التنفيذ الجذري سواء كان مصدره ترامب نفسه أم تلك المؤسسات المتغلغلة في أعماق السياسة الأميركية، والتي ما تزال أطرها العامة، سارية المفعول.
دون أن نغفل في كل حال، حماس ترامب المستمر لمواجهة إيران، وحالة الإضطراب الشديد التي تخلقها في المنطقة ويكاد أن يكون هذا الحماس هو المستجد الوحيد الذي لا يزال على تصميمه وعناده بصدده، وخلال أيام، سيعلن عن المدى الذي ستسير فيه بلاده في هذا الصدد وعند أي حدود سيتوقف، وهل سيستمر في تصدّيه لأوضاع حزب الله في المنطقة، وما هي المخاطر والأضرار التي ستصيبنا من خلال مواقف ترامب المعلن منها وما سيعلن؟ دون أن نكف عن التساؤل: متى سيتمكن الرئيس ترامب من الإمساك القويّ والثابت بمفاتيح السلطة والتصرف والتنفيذ في بلاده.