تكرّس زيارة «الصداقة» التي قام بها الرئيس فرنسوا هولاند، قبل ايّام، للمغرب فتح صفحة جديدة في العلاقات القديمة بين البلدين وذلك من بوابة طنجة. كان هناك دائما شراكة، أو نوع من الشراكة، بين المغرب وفرنسا. ارادت فرنسا الإستخفاف بالمغرب في مرحلة معيّنة، إلى أن استدركت نفسها، فرأت أن العودة عن الخطأ فضيلة وأنّ تطوير الشراكة مع المغرب، في ظلّ الإحترام المتبادل، هو الخيار الوحيد المتاح امامها.
إنّه الخيار المغربي الذي يفرض نفسه في حال كانت باريس تريد المحافظة على مصالحها ومصالح شركاتها الكبيرة… وايجاد مدخل آخر لها إلى افريقيا.
تأتي الزيارة التي التقى خلالها الرئيس الفرنسي الملك محمّد السادس في طنجه بعد اكتشاف بعض الأوساط الفرنسية أنّ لا مجال، في نهاية المطاف، لإبتزاز المغرب بأي شكل.
اكثر من ذلك، اكتشفت الرئاسة الفرنسية أنّ أيّ ابتزاز للمغرب سيرتدّ على فرنسا ومصالحها. هناك بكلّ بساطة بلد اسمه المغرب يستطيع الإستغناء عن فرنسا، في حين أن فرنسا ليست قادرة على التضحية بمصالحها في المغرب، خصوصا أن المملكة المغربية تمتلك خيارات أخرى كثيرة، فضلا عن أنّها تبقى سوقا واعدة لأيّ دولة عضو في الإتحاد الأوروبي أو من خارج الإتحاد لديها ما تقدّمه للبلد.
تبيّن أن هناك معادلة لا تستطيع فرنسا تجاوزها مهما حاولت مسايرة اللوبي الجزائري الذي لديه جذوره العميقة داخل الحزب الإشتراكي الذي ينتمي إليه فرنسوا هولاند. مصالح فرنسا اكبر بكثير من حسابات بعض الإشتراكيين الذين تتملكّهم عقدة المغرب وتتحكّم بتصرفاتهم.
تزداد أهمية المصالح الفرنسية وحجمها مع مرور الوقت. وهذا عائد في طبيعة الحال إلى أن المغرب في حال صعود، في حين أن الجزائر، التي سعت دائما إلى وضع العراقيل في طريق التعاون المغربي – الفرنسي، تواجه حاليا صعوبات على كلّ المستويات.
وهذا عائد، ايضا، إلى مجموعة من الأزمات يمرّ بها هذا البلد الكبير، الذي يمتلك ثروات ضخمة، اضافة إلى الثروة البشرية. في اساس الأزمات أن البلد يحكمه المحيطون بعبد العزيز بوتفليقة، الرئيس الذي لم يعد معروفا هل هو المريض أم أنّ الجزائر هي المريضة. هذا من جهة، هناك من جهة أخرى هبوط اسعار النفط والغاز، فضلا بالطبع عن الوضع الإجتماعي الذي يعاني منه البلد بسبب غياب أي مشروع تنموي من أي نوع منذ سنوات طويلة، بل طويلة جدا. لم تستطع الجزائر تطوير نفسها واقتصادها ومجتمعها عندما كان سعر برميل النفط يتجاوز المئة دولار. تدفع حاليا ثمن البقاء في اسر سعر النفط والغاز!
في النهاية، لا يصحّ إلّا الصحيح. كان لا بدّ من العودة الفرنسية إلى المغرب حيث في الإمكان بناء «شراكة استراتيجية متطوّرة» تشمل التكنولوجيا والمناخ والمشاريع الصناعية الكبيرة وخطوط سكة الحديد التي تربط بين المدن المغربية. فالمغرب، بلد يتحدّث فيه محمّد السادس عن مستوى التعليم وأهمّية اتقان اللغات الأجنبية وتعلّمها، وهو بلد يسعى في العام 2020 إلى الإعتماد بنسبة اثنين واربعين بالمئة على الطاقة المتجددة، كي لا يكون تحت رحمة النفط والغاز المستوردين واسعارهما العالمية…
ليس صدفة عودة فرنسوا هولاند إلى المغرب من بوابة طنجة. فطنجة، حيث ثاني اكبر ميناء مغربي، على مرمى حجر من اوروبا. من طنجة يمكن مشاهدة البرّ الإسباني. وفي طنجة يجرى توسيع ميناء «طنجة ـ ميد»، أي طنجة ـ البحر المتوسط كي يكون بوابة اوروبا إلى افريقيا وبوابة افريقيا إلى اوروبا. هناك مصانع لشركات سيارات فرنسية، بينها «رينو» تُبنى في مواقع قربية من الميناء.
تستفيد هذه المصانع من اليد العاملة المغربية المؤهّلة وتستفيد من القرب من اوروبا وتستفيد ايضا من الإرتباط المغربي بافريقيا. لم يعد سرّا الدور الذي يلعبه المغرب في مجال الإنفتاح على دول افريقية عدة من أجل نشر ثقافة التسامح ونشر الإسلام المعتدل في مواجهة الإرهاب بكلّ اشكاله.
في المجال الإفريقي، اكتشفت فرنسا ايضا أن التعاون مع المغرب يصبّ في مصلحتها، وذلك بدل التنافس معه. هناك دور يلعبه المغرب في الحرب على الإرهاب. هذا الدور ليس دورا عسكريا وأمنيا في الضرورة. انه دور ذو طابع انساني واجتماعي يقوم على مساعدة الدول الإفريقية الفقيرة على التقدّم والتطوّر وذلك على الرغم من الإمكانات المغربية المحدودة.
المغرب يبني مستشفيات في دول عدة ويرسل اطباء وممرّضين ومعدات طبّية. الأهم من ذلك كلّه، أنّه يعمل من أجل تكوين ائمة للمساجد ينشرون الإسلام المعتدل. هناك معهد ديني مختص بذلك انشأه محمّد السادس في الرباط حديثا. فوق ذلك، هناك متابعة مغربية للمشاريع الإنسانية التي تُقام في هذه الدولة الإفريقية أو تلك. لا تمرّ بضعة اشهر، إلّا ويقوم محمّد السادس بجولة افريقية من أجل التأكّد من أنّ هناك تقدّما يتحقّق على الأرض.
كان لا بدّ لفرنسا من اعادة اكتشاف المغرب، وذلك ليس من زاوية حماية مصالحها فحسب، بل لأنّ هناك ايضا شراكة حقيقية بين البلدين في غير مجال، بما في ذلك الحرب على الإرهاب. تحتاج الحرب على إلى تعاون بين باريس والرباط، كما تحتاج إلى تعاون على الصعيد الإقليمي في وقت تبدو الجزائر، الدولة المهمّة الأخرى في المنطقة مهتمّة بأزماتها الداخلية اكثر من أيّ شيء آخر.
كان طبيعيا أن تعود فرنسا إلى المغرب، وذلك ليس من أجل المحافظة على مصالحها فقط. تلك العودة مرتبطة ايضا بوجود شبكة مصالح كبيرة في مجالات متعددة تتجاوز التجارة والمصالح، وصولا إلى السياسات الكبرى، بما في ذلك الحرب على الإرهاب والهجرة ومستقبل دول المنطقة المهددة، خصوصا ليبيا وتونس، اضافة إلى الوضع السائد في ما يسمّى منطقة الساحل الممتدة من موريتانيا إلى جنوب السودان.
كان لا بدّ من العودة الفرنسية بعدما تأكد لباريس أن التجربة التي تمر بها المملكة المغربية تجربة جدّية تستأهل التوقف عندها وأن الإصلاحات السياسية والإقتصادية التي بادر اليها محمّد السادس لا تعني المغرب وحده. هذه الإصلاحات تعني المنطقة كلّها، لا لشيء سوى لأنّها تعكس القدرة التي يمتلكها بلد، لا يمتلك النفط والغاز، على تطوير نفسه ومجتمعه، بما يساعد في ضمان الإستقرار الإقليمي. وهذا يعني في طبيعة الحال الإستقرار الفرنسي والأوروبي، أي الضفّة الأخرى للبحر المتوسّط…