ثلاث سنوات مرّت على تفجيرَي مسجدَي التقوى والسلام في 23 آب 2013، أشياء كثيرة تغيّرت في المدينة ولبنان والمحيط، إلّا أنّ الثابت الوحيد هو جرح طرابلس الذي ما زال ينزف، والخوف من أن تشتعل المعارك في أيّ وقت.
من مدخل طرابلس الى ساحة التلّ مروراً بالزاهرية والتبانة، شارع سوريا، جبل محسن، القبّة، وأحياء أخرى، مناطق تختزل معاناة شعب… شعب ضاع بين الطروحات الكبرى وواقع الفقر والتفقير.
لم تكن طرابلس بهذا الشكل لو لم تختلط فيها العوامل الدينية والثقافية والإرتباطات السياسية. قد يتحمل الشعب الجزء الأقل من المسؤولية، لكنّ اللوم الأكبر يقع على عاتق قياداتها التاريخية التي لم تعرف النهوض بالمدينة المنكوبة.
فالنكبة لم تكن في تدمير المباني نتيجة الحروب، بل في جعل الإنسان يفقد قيمة الحياة، بحيث لا يعرف من أين يأتيه الموت، فيدخل في قتال منتظراً أن يلاقي حتفه في أيّ لحظة.
بين أزقة التبانة، يفقد الطرابلسيون الأمل بالحياة في دولة تحترم نفسها وتعمل لمصلحة شعبها. فلم تنفعهم المشاركة في كلّ التظاهرات منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 ضدّ ضمّ المدينة الى الكيان الجديد، في تغيير أيّ أمر في الواقع المعيشي، ولم تنفعهم أيضاً المشاركة في تظاهرات الإستقلال في خريف 1943 من التنعّم ببلد مستقلّ.
وأضرّت بهم ملاقاتهم طموحات الوحدة العربية مع الرئيس جمال عبد الناصر ومشاركتهم في ثورة 1958 أكثر ممّا أنتجت مردوداً، فيما جرّ عليهم قتالهم مع الفلسطيني ومن ثمّ تدخّل السوري، الويلات، ليصرخوا عام 2005 ويقولوا لبنان أولاً، لكنّ تلك الصرخة لم تؤمّن لهم «ربطة خبز»… فكان قتال المحاور.
صحيح أنّ الفقراء يتقاتلون. ففي الجهة المقابلة هناك جبل محسن الذي يُعتبر عقارياً جزءاً من التبانة، لكنّ البعد المذهبي والنزاع الدامي والتفكّك الإقليمي جعل الأحياء المتلاصقة متنافرة.
ففي تلك المنطقة، مواطنون إستعملوا دروعاً لنظام خارج الحدود، ودخل أبناء الجبل في حرب مع أهلهم لا دخل لهم فيها من الأساس، فلم يُسعفهم إحتلال نظام حكم لبنان بالحديد والنار من تطوير أوضاعهم المعيشية، أو حتّى تقدّمهم في وظائف الدولة أو إحتلال مراكز قيادية، بل كلّ ما حصل لهم أنهم باتوا على خلاف مع أقرب أقاربهم من المذهب المقابل.
فلا النظام السوري وحلفاؤه جعلا جبل محسن منطقة أبراج حديثة، ولا كلّ الأبعاد الدينية والعروبية والإمتدادات الإقليمية، وفّرت فرصة عمل واحدة لأبناء التبانة والجوار.
الفقر هو الحاكم الأوّل والأخير في معظم أحياء طرابلس، وقد تكون منطقتا جبل محسن والتبانة مثالاً بسيطاً ونموذجاً عن بقية أزقة المدينة الأثرية التاريخية الثقافية. تلك هي حال الفيحاء، لم يتغيّر شيء. فعند إنتهاء الحروب، تبدأ عملية إعادة الإعمار لتغدو المنطقة احدث وأجمل ممّا كانت، إلّا في طرابلس.
فعند إنتهاء أيّ جولة قتال يبدأ التفكير بسدّ الثغرات في الجولات المقبلة، وعوض إدخال الرمل للبناء، يخبّئه البعض للقتال، فيما يُعتبر الباطون أساسياً لبناء المتاريس المسلّحة بدل الأبنية، والشجر يُستخدم لتضليل العدو المقابل، في وقت يبقى الإنسان الطرابلسي، الدرع البشري الأكثر إستنزافاً.
في 23 آب 2013، وبينما كانت التفجيرات في أوجها في لبنان، وحروب المحاور تشتعل، ضرب الإرهاب مسجدَي التقوى والسلام. إنفجاران كادا أن يُشعلا حرباً أهلية أوسع من باب التبانة- جبل محسن، خصوصاً أنّ الإحتقان الطائفي كان في عزّه بين السنّة والشيعة.
«مرّ القطوع»، سقط شهداء وجرحى، إحتوت الطبقة السياسية تداعيات التفجيرات، لكنّ الأهمّ أنّ المجرمين لا يزالون أحراراً، وهذا جرح إضافي في جسد أهالي الشهداء والجرحى.
لم تنتهِ الأزمة السورية، وبالتالي لبنان لن يرتاح قبل ولوج شمس الحلول في المنطقة، يستطيع الطرابلسي أن يعيش وينعم بالإستقرار الأمني الجزئي، لكنّ الإستقرار المادي مفقود. طرابلس كانت بوابة حمص، وحمص تدمّرت بمعظمها، وبات أهلها في طرابلس، وكما كانت الفيحاء مختبرَ التغيّرات وبوصلة الأوضاع الإقليمية، تبقى حتى وقتنا هذا وقوداً في صراعات الآخرين، حتى يرحمها البعض من الداخل والخارج، ويتركها تعيش بسلام… وتقوى كما تعوّدت دائماً.