Site icon IMLebanon

عندما يخترق الحريري تابوهات الكانتونات

 

الجولات الانتخابية التي قام بها الرئيس سعد الحريري إلى مناطق عدة في البقاع، وصولاً إلى عرسال، ومروراً بالعرقوب وشبعا، وبيروت، كان لها أكثر من معانٍ انتخابية، وأكثر من مناسبات محددة، وأعمق من مجرد تواصل بقواعده الشعبية. والدلالة الأهم، (الجديدة) تتمثّل باختراق الحريري بعض حواجز الكانتونات المتنقلة، التي كان محرّماً تجاوزها إلاّ بإذن من آخر عناقيد الميليشيات «حزب إيران».

 

هذه «الجرأة» النادرة في التجوالات، كأنها افتتاح لزمن جديد، هو زمن ما بعد «حزب الله». أو الأحرى زمن ما يُسمّى «قوى الأمر الواقع». التسمية التي تنسحب على الميليشيات الكانتونية التقسيمية أيام «قوى الأمر الواقع» السابقة. وها هو الحزب يرث أسوأ ما في تلك الظواهر من إقامة خطوط تماس بين «نحن».. و«هم» بين «نحن والآخر». تعني الحدود الجغرافية للغيتوات الصافية، النقية، ابتداء من عام 1975. ومَن عايش تلك المراحل القديمة عرف بالملموس والمعيشي والمرئي، الدور الذي لعبه حافظ الأسد، في هذا التقسيم، تشاركه في ذلك إسرائيل طبعاً، وبعض الفصائل الفلسطينية التي تتحمّل المسؤولية الكبرى في تقسيم الجيش، وقوى الأمن، وفرض خطوط تماس وانفصال بين اللبنانيين. بمعنى أنها حلّت محل الدولة التي انهارت آنئذٍ بكل مكوناتها. زمن الإدارات المدنية، و«الشارع الوطني» والآخر «الانعزالي»، «العميل»، و«المناضل»، «الأسود» والأبيض. كل لبنان تحوّل «شعوباً» مذهبية، وأمكنة مذهبية، وهواءً مذهبياً. إنها من صنائع ما سُمِّي آنئذٍ حروباً أهلية، وكانت في الواقع حروب الآخرين على وحدة لبنان وأراضيه ودولته وجيشه وبرلمانه وحكومته.

 

المناطق «المذهبية» المطهّرة من «رجس» الآخرين، والمرشوشة ببخور «المؤمنين»، والقدّيسين، والأولياء، تفككت «أمنياً» بعد الحرب، وفتحت الطرقات وزالت المتاريس، وانسحب «أبطال» القتل على الهوية. لكنها، خلّفت حالة السلم غير المتوازنة، (بوجود الوصاية السورية، وإسرائيل)، بحيث أزيلت مظاهرها، لتبقى تقسيماتها الجغرافية، نفسية، وسياسية، واجتماعية.

 

وقد عرف «حزب الله»، بعدما صفّى (مع نظام الأسد) المقاومة الفلسطينية، والمقاومة الوطنية، كيف يحل محلهما، خصوصاً في الجنوب والبقاع، وبعدما تخلت الميليشيات السابقة عن أسلحتها، وانضمّت إلى الدولة، (بعد مؤتمر الطائف). وها هو الحزب يجدّد «مقاومته» «الوحيدة» ضدّ إسرائيل، بعد زمن المقاومات العديدة التي عرفتها الحرب اللبنانية. باتت المقاومة ملتصقة بجانب طائفي معين.

 

واللافت أن حزب إيران، حافظ، برموش عيونه، على «تركة» مَن سبقه من «قوى الأمر الواقع» بالطبع، ليستفرد بها كـ«قوّة الأمر الواقع» المختارة من «الإله» الإيراني الأول: أقام كانتوناً نظيفاً، مهفهفاً بالعنف، والكراهية، ومواجهة الدولة، والقوانين، بقوة السلاح، بحيث بات هو واقع الدولة المستعادة، بدويلته المسخ، لا جيش «يخترق حدودها»، لا «قوى أمن» لا قضاء، لا اقتصاد، لا عمران، لا سياسة!

 

الخضوع

بنى مجتمع الخضوع للحزب الواحد، بشعارات تقسيمية، مذهبية، بحيث صار عنده «كنز الدولة الحاضنة»، لناس، أوجد بينهم وبين الدولة اللبنانية تنكراً ورفضاً. لا أحزاب أخرى في كانتوناته سواه. لا صوت سوى صوته. لا سلطة سوى سلطته. كل ذلك بسلاح فائض يُستعمل لحماية هذه الأمكنة المغلقة المحرّمة، في الأيام والمناسبات العادية، وخصوصاً في الانتخابات البلدية والنيابية.

 

تهديد

 

يتصرّف وحده، يهدد كل مَن تُسول له نفسه «موازاته»، فلوائحه محمية بالترهيب والوعيد والعنف المباشر: وكلنا يذكر أن بعض مَن «غامروا» وترشحوا مستقلين، نالوا نصيبهم من إحراق محال ومنازل، وتفجير سيارات، أو اعتداءات، هنا اكتبوا «ممنوع الدخول» والخروج والحركة والتفكير وممارسة حتى التقاليد الاجتماعية من دون إذن «القائد الأوحد» الكانتوني ليكون في خدمة «القائد الأسمى الأوحد: خامنئي». ولم تكن تلك الاعتداءات «خفية»، خجولة، أو خبيثة بل سافرة، ومصورة، وموثقة بل وموزعة بكل وسائط التواصل الاجتماعي، لتكون عبرة لكل مَن يحذو حذو هؤلاء «الأعداء» و«الخونة»، والمرتبطين بالسفارات الأميركية والسعودية والإسرائيلية. إذن تخوين كل معارض أو حتى مستقل أو حيادي. فالحيادية تخدم «العدو» (الداخلي) وهكذا جرت الدورات الماضية في هذه الأجواء… البوليسية، والبلطجية، والمافوية.

 

لكن، وبعد عوامل عديدة انتكس فيها الحزب في سوريا، واليمن، والعراق، وبعد فضائح اجتماعية مخجلة ارتكبتها عناصر ملتزمة «إيمانها العميق بولاية الفقيه»، كالكبتاغون، والأدوية المزوّرة، وسرقة مشاعات الدولة في الجنوب.. واشتداد القبضة القمعية على سكان كانتونه، بعدما شعر بأنه بدأ تُفلت من يديه المعدنيتين تلك السلطة القاهرة، ليتحول التزام زعامة.

 

الأمين العام للحزب، خوفاً، وعندما يتبدّل الانتماء إلى خوف، فيعني ان «المجتمع» الصافي بدأ يكون مغشوشاً، بالحرية، وبالمجتمع المدني، والاحتجاج، والضيق. وها هي الانتخابات الحالية تطبق على «حزب الله»، وتوصي بمدى تراجع تأثيره على بيئته، هنا لم يبق له سوى أن يستخدم في حق مجتمعه، ما استعمله مع الآخرين، أي القوى الديموقراطية، والسيادية، والمدنية: الوعيد والاتهامات والتخوين. وها هي إحدى اللوائح المعارضة في البقاع – الهرمل – بعلبك، تُتَّهم بالداعشية وبالإرهاب. أي اتهامات تطل من قلب عرينه. وها هو الصحافي علي الأمين يتعرض للضرب المبرح، ركلاً، وضرباً، وقبضات «إلهية»، لأنه تجرّأ وألّف لائحة تعبّر عن حال الناس وتململهم بل وتمردهم: ممنوع عليك أن تعلق صورة لك في شقرا، حتى وإن كنت مرشحاً فأنت «عميل السفارة – السعودية والأميركية». وهذا ما سبق أن اتهم به السيد حسن نصرالله إحدى اللوائح المنافسة: بعميلة السفارات وداعش. تخوين يستحق القتل، في الوقت الذي نقل الحزب دواعشه في باصات مبرّدة، وهم الذين حاربوا الجيش وقتلوا عناصر منه (داعش تهمة في الانتخابات وسواها، وحليف في المعارك ضدّ الشعب السوري)!

 

الأعصاب

 

في هذه الأجواء الضاغطة في كانتونات الحزب الذي فقد أعصابه، وأحس بأنه يفقد السيطرة، على مفاتيح الأبواب المغلقة دون الآخرين، ها هو سعد الحريري، بعد كل ما عاناه من هؤلاء، من اتهامات وتهديدات، وتخوين، يخطو بخطوات جريئة لاختراق الكانتونات التي بناها، بعض الميليشيات السابقة، وتبناها «حزب الله»!

 

لا سدود ولا جدران بين اللبنانيين، لا مناطق مغلقة دون لقاء اللبنانيين وانفتاحهم على بعضهم، وتفاعلهم؛ لا احادية هيمنة خارجية على منطقة لبنانية. وكأنه يقول «حطّموا» الحواجز المرفوعة بينكم. «كسروا» الستار الحديد المفروض دون تواصلكم، تجاوزوا كل الأمكنة التي ما زالت خارج الدولة، وسلطتها، وجيشها؛ اجعلوا «الآخر» نحن. و«نحن» الآخر. فلبنان ليس شعوباً وجدت بالصدفة على أرضه، لا تفعل سوى إعلانها الحروب على بعضها، ونفي بعضها الآخر، يعتليها «قائد» أو ضابط، أو ميليشيوي يمارس فيها كل ما يؤول إلى الدولة من مسؤوليات.

 

غير المسبوق

 

وإذا جاءت هذه الخطوات «الجريئة» غير المسبوقة، في زمن الانتخابات، فلأنه يمكن أن يكون موسم «الهجرة» المعاكس لحزب إيران، ووصاية آل الأسد. إنها الرحلة الطويلة المحفوفة بالخطر. وما كانت تتم بهذه الطريقة الملحمية، الشعبية، لولا ظهور التفكك العضوي في الحزب الميليشيوي «المقاوم سابقاً»، والمعتدي اليوم، ليس على اللبنانيين فقط (7 أيار وتوابعه إحراق جريدة وتلفزيون المستقبل، إحراق محطة الجديد، تهديد LBC، اغتيالات الرموز وعلى رأسهم الشهيد رفيق الحريري)، لن يكون المجرمون قديسين بعد اليوم. ولا السلاح منفرداً يفرض ما يشاء، ويخوّن مَن يشاء، ويبرّئ مَن يشاء (محاولة تبرئة ميشال سماحة، وإطلاق سراح العميل الإسرائيلي فايز كرم) ولا التسلط على الإدارات، ولا إزالة كل ما يربط اللبنانيين لاستفراد الطائفة الشيعية في سجنها الكبير، وجلاديها!

 

وها هو الحريري، في «رحلته» المضادّة، يصل للمرة الأولى إلى حيث مُنع والده من الوصول. (وكلنا يذكر أن وصاية بشار الأسد وقبله والده)، وضعت خطوطاً حُمراً لتحرك الرئيس الشهيد الحريري، ممنوع زيارة المفتي، ممنوع الذهاب إلى عكار، ممنوع الذهاب إلى عرسال، ممنوع استقبال رئيس دولة أجنبية إذا لم يزر دمشق، ممنوع التدخل في القضاء والقضاة (المهددين طبعاً، نتذكر اغتيال أربعة قضاة في صيدا.. وما زال التحقيق جارياً!)، ممنوع فتح ملف موسى الصدر. أو رينيه معوض (اغتاله النظام السوري)، ممنوع التعرض لكل مَن يُحالفنا خصوصاً بعض الرؤساء (كإميل لحود)، ممنوع تأليف حكومة إلا في مطابخ آل الأسد، ممنوع إجراء انتخابات نيابية من دون «ودائع» تُفرض على لوائح الحريري، ممنوع إجراء أي اتصال بالفئات والأحزاب المغضوب عليها، والمعارضة. فليبق لبنان هكذا ممسوكاً بأيدٍ فولاذية، يطفو على سطحه «أمن» مشروط بالتخلي عن الحرية. أمن مقابل الحرية. أمن مقابل الحروب. أمن مقابل إفلات لصوص الوصاية على الناس، والبنوك، وفرض «حصصهم» على المشاريع، والمساعدات الخارجية!

 

فلبنان لم يكن لبنان، واللبنانيون كأنهم غرباء.. يغرقون في المستنقعات التقسيمية، والانزوائية والخوف. لا يجرؤ أحد منهم (وخصوصاً المسؤولين) عن ذكر «مؤتمر الطائف» أو فتح ملف الـ17 ألف لبناني الذين ما زالوا مفقودين في سجون آل الأسد..

 

14 آذار

 

هنا الأثر الكبير لـ14 آذار (السالفة بكل أسف)، وهنا أيضاً سعد الحريري، يعاود روحها التوحيدية والسيادية، والديموقراطية، والانفتاح، والتعددية، لتتجسد كلها خصوصاً في «رحلاته» كاسرة التابوهات والمحرمات والجدران الحديد. إنه يتجرّأ، أن يعبر إلى أهله، وأحبائه، ومحبيه، الذين سبق أن دشّنوا تحطيم الحواجز في التظاهرة المليونية، وها هو الحريري يعبر تلك الضفاف. الضفاف اللبنانية (ودمه على كفه)، ذهب إلى هناك ليطلع على أوضاع الناس ومشاكلهم ويراهم، أوليس من الطبيعي أن يسعى الإنسان، أي إنسان، للقاء مَن يحبونه، ويحبهم، ويتحسس أصواتهم، ويتحسسون صوته، يمشي بينهم ويغمرونه بشوقهم، يتعرف عليهم ويتعرفون عليه. يصارحهم ويصارحونه، يهتفون له.. ويهتف باسمهم.

 

في هذه اللقاءات الوجاهية، العفوية، والأصوات الحميمية، نجح الحريري في مد جسور مباشرة بينه وبين اللبنانيين. إنه حاضر هناك أمامهم وهم حاضرون هناك أمامه، بعدما ندرت مثل هذه اللقاءات الشعبية الحية، بين القواعد والقادة. نزل إليهم، ليصعدوا إليه، نزل إليهم أعزل، مدنياً، ودوداً، صادقاً، ورحّبوا به أكثر من كونه مرشحاً.. بل كقريب وأخ جاء ليطمئن عليهم.

 

كأنما نقل الحملات الانتخابية من أطرها الرسمية وشعاراتها المقننة، إلى فضاء واسع من التجاذب والانفعال والتعاطف والمشاعر.

 

إنهم أولاً لبنانيون، ومن حق كل لبناني أن يزور كل لبناني. سواء في المناسبات أو غير المناسبات، بهذه الروح نجح الحريري بكاريزما شفافة، وبإطلالة غير تقليدية، ليفتح زمن نزول «القادة» من أبراجهم العاجية، إلى صفوف الناس. والمهم أيضاً، أن مثل هذه البادرة الرائدة من شأنها أن تشجّع المجموعات والمواطنين أن يخترقوا بكل حرية، كل الأماكن المحظورة، ويكسروا كل التابوهات، هذا هو المعنى الاجتماعي لها، وهذه هي دلالاتها السياسية الأخصب.

 

ونظن أن الحريري في تجوالاته دشن زمناً آخر في التعاطي مع الناس في الانتخابات أو في سواها: فالمهرجان الشعبي يجب أن يكون بطله الشعب، وليس العكس. وهذا تحديداً ما يعطي الزعيم أو القائد شرعيته، وقوته، المستمدتين من هؤلاء الناس. الحريري طلب ثقة الناس ومحضوه اياها. طلب مشاركتهم، وطالبوه بمشاركته. إنها المشاركة الندية الأساسية في نجاح الديموقراطيات والدول.

 

وما تجدر الإشارة إليه، أن الحريري، بجولاته.. التي استقبلها الناس بعشرات الألوف، كانت استفتاء على زعامته، وعلى قوة حضوره، ودليلاً على محبة الناس له، وإشارة لامعة إلى أن شعبيته لم تُمس كما دس بعض الداسين، بل تعززت، وترسخت وتجذرت..