ما زال الإصرار من «حزب الله» على أن «الأمن» و«الأمان» الذي يشعر بهما اللبنانيين، هو بفعل «مقاومته» في سوريا التي منعت برأيه، وصول «التكفيريين» إلى لبنان وأبقت هذا البلد، بمنأى عن الصراعات والتفجيرات الحاصلة في المنطقة وعلى رأسها سوريا. ومن جملة ما يدعيه الحزب، هو «ثقافة» مقاومته التي تعمل برأيه، على تربية الأجيال ومستقبلها، لدرجة ان من يسمع مثل هذه الخطابات، قد يظن للوهلة الأولى، أن أهم الأسباب التي دفعت «حزب الله» إلى التدخل في الحرب السوريّة، هو نشر السلام بين هذا الجيل، وجعل حياته أكثر أمناً وأماناً.
كعادته، يُبرع «حزب الله» في «بيع» الأوهام وحرف الحقائق عن موضعها الحقيقي وذلك بحسب ما تقتضي مصلحته الشخصيّة. بإمكان الحزب تحويل إنتصارات خصومه إلى هزائم في حال تناقضها مع مشروعه، تماماً كما هو حال تعاطيه مع هزائمه التي يحوّلها على الدوام إلى «إنتصارات». ويُمكن إستنتاج طريقة التعاطي هذه، من خلال كلام لنائب الامين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم يقول فيه: «إن المقاومة لم تكن يوما بالنسبة إلينا خيارا عسكريا فقط، بل هي خيار ثقافي وسياسي وإيماني وجهادي وفي كل مجالات حياتنا، أي أننا لسنا على جبهة القتال من أجل العسكر فقط، وإنما نحن هناك من أجل حماية فكرنا واتجاهنا ومستقبل أولادنا وما نريد أن نحققه للأجيال الآتية».
في مُجمل خطاباتهم ولقاءاتهم، لا بد وأن يزج قادة «حزب الله» بإسم المملكة العربية السعودية في جميع الأحداث المتصلة بالمنقطة وتحديداً تلك التي يُعتبر هو أحد الأطراف فيها. يزعم الشيخ قاسم أن «دولاً أوروبيّة وعربيّة ولا سيما السعودية، تداعت لنصرة المشروع الصهيوني من بوابة سوريا، فجمع التكفيريون من أقطار الأرض لإنقاذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الأميركي، ولحماية إسرائيل، فكانت المقاومة ومحورها بالمرصاد». والواضح هنا، أنه من لبنان إلى سوريا فالعراق وصولاً إلى اليمن، لا يجد الحزب غير السعودية وحلفاؤها ليُحملهم مسؤولية إنهزامه وتورطه في حروب الغير والتي لم تعد عليه سوى بالموت والعداء لكل العالم. وحجم التورط هذا، يعكس صعوبة تقبّله واقعه الجديد الذي أصبح فيه أسيراً لارتباطات ومشاريع خارجية هو فيها مُجرّد رقم هامشي لا يتعدّى دوره تشويه الحقائق وتزويرها وحرفها عن موضعها لصالح المُشغلين الذين ورّطوه بدماء الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ.
المشكلة هي أن «حزب الله» يُمارس ما يتهم به الآخرين في بياناته وأفعاله. يُقاتل في أرض حمته وحمت مقاومته وجمهوره يوم قرّر الإنقلاب على الشرعية في بلده واستفرد بقراري الحرب والسلم، وفي هذه الأرض يقتل شعبا فتح له ذات «تموز» البيوت ودور العبادة لعائلات قياداته العسكرية والسياسية. واليوم يلمس الحزب أن مساراً جديداً في سوريا بدأت عناوين تسويته تلوح في الأفق على قاعدة تقسيم مدن وبلدات، ومن هنا يسعى الحزب إلى تحقيق جزء ولو بسيط من مخطط كان أعده واستعد له، يوم دخل في عملية التقسيم «الديموغرافي» المذهبي يوم دخل في عملية التبادل السكاني بين «الزبداني» و«كفرية» و«الفوعة».
الإنتكاسات والهزائم التي تُلاحق «حزب الله» في سوريا، لم يعد يجد لها تبريرات مُقنعة تُمكّنه من الركون اليها أمام إحتجاجات جمهوره التي تُلاحقه، وهو الذي لم يزف إلى هذا الجمهور منذ إحتلاله مدينة «القصير» في ريف «حمص»، أي «نصر» يُمكن أن يعوّضه عن المُساءلة أو أقلّه أن يحميه من نظرات الإتهام التي تُلاحق مسؤوليه أثناء تقديمهم واجبات العزاء. ومن هذه الأزمة، يبدو أن الحزب قد صرف فعلاً كل رصيده الهجومي وفضّل التراجع إلى الوراء والإستقرار في منطقة الدفاع، لكنها منطقة لن توفّر له كل مقومات الدعم خصوصاً إذا ما قرر الإنتحار من خلال تحقيق مقول «الزجّ بثلثي الطائفة الشيعية في الحرب السورية، من أجل أن يحيا الثلث المتبقّي بأمن وكرامة».
تحميل دول في المنطقة وجزء من شعبه مسؤولية هزائمه في سوريا واليمن، لن يُعفيه من قرار الإنتحار الذي سار به إلى الموت في هناك ولن يمحو عنه الجرائم التي شارك بها هناك الى جانب نظام بشّار الأسد. بالأمس استعاد الحزب نغمة «لولانا» وراح «يُمنّن» اللبنانيين بدخوله الحرب السوريّة لأجلهم وبأنه من منع وصول «التكفيريين» إلى بيروت وجنوية وصيدا، لكنه تناسى، بأن هناك مئات العائلات ساءت أحوالها بسبب عنجهيته وتصرفاته، وأن جزءاً من اللبنانيين هاجروا بفعل الحروب التي ارتكبها وسلاحه المتفلّت، وأن قسماً غير قليل من أبناء «ملّته»، قرّب منه الموت وزرعه شوكة دائمة في عيونهم وقلوبهم، ومع هذا، يُصرّ على إطلالات المنابر، ليتحدّث عن «إنتصارات» وهميّة أمام ببيئة، لم تعد ترى سوى الموت أمام ناظريها، بعدما أُغلقت جميع منافذ الأمل في وجهها وأصبح «الواجب الجهادي» الباب»الشرعي» الوحيد للخروج من سجن الموت.