لم يعد «حزب الله» يندّد، كما في بداياته بالثمانينيات، بالصيغ التوافقية والتوازنية اللبنانية، فهو تعلّم، في مرحلته اللاحقة، أنه بإمكانه أن يوظّف هذه الصيغ لحسابه، حين يروق له ذلك، وأن يتخفف منها، حين لا يحتاجها. بالغ كثيرون في تقدير هذا التحول، فاعتبروه «لبننة» للحزب، متأثرين بشكل او بآخر بمدرسة في علم السياسة تغلظ في تعميم مثال الاحزاب الشيوعية في اوروبا الغربية، التي انتقلت من «التطرف الاممي» المتماهي مع الموقف السوفياتي، الى اخذ مسافة تمايز عن «الشقيق الاكبر»، مسافة ما لبثت ان تطوّرت نقداً وتحفظاً على هذه النقطة او تلك. لكن «حزب الله»، الذي تبدلت طريقة تعاطيه مع الصيغ التوافقية والتوازنية اللبنانية، التي تتضمن بطبيعة الحال كمّاً من التلفيق والترقيع والمجاملات الخطابية وتبادل الاساطير، بعد ان أيقن ان باستطاعته الاستثمار فيها والاحتماء وراءها، لم يحِد قيد أنملة عن التزامه الخط المقرر من مكتب الولي الفقيه وقيادة الحرس الثوري في ايران، بل العكس، تصلّبت علاقته العضوية بالحرس الثوري الايراني، أكثر فأكثر عند جلاء الجيش السوري عن لبنان، ثم، وللمفارقة، أكثر فأكثر عند تدخّل «حزب الله» كجزء من آلة حرب الباسدران الايرانيين الى جانب نظام الاحتضار الدموي المزمن في سوريا.
«حزب الله» هو اكبر حزب جماهيري منظّم ومسلّح في تاريخ لبنان، وعمره الآن خمسة وثلاثون عاماً، وتجربته صارت اكثر منهجية، وبالتالي اكثر خطورة، من ارتجالات البدايات وانفعاليتها، و»تلبنن» ان قصدنا بالتلبنن تبني ثقافة «الاخذ والعطاء» مع قوى ليست من لونه الايديولوجي ويتقاطع معها في صداقة او تحالف او لظرف. لكن هذه ‹اللبننة» ظلت محدودة وتتوسل الذريعة. مرة ذريعة ان الحزب جماعة لبنانية، فعلام الحديث حول تلبننه، ولا احد يكابر على انه مجموعة لبنانية اساسية، انما اللبننة المقصودة هي تلك الكيانية. ليس بمعنى انعزال لبنان عن محيطه، لكن بمعنى حضوره ككيان وطني في هذا المحيط، وليس كجماعات ترتبط كل منها بقرار عن بعد ضمن هذا المحيط. طبعاً، الذريعة الثانية عند الحزب ان الجميع يأتمر من خارج في البلد، وخارجه اكثر نقاوة، لانه ايران الثورة، ايران الخميني، التي تناضل من اجل تحرير المنطقة ككل من رجس الامبريالية والصهيونية والرجعية (مع محافظتها على العداوة لكل ما هو تقدمي الا اذا كان على شاكلة تقدمية البعث الساريني في سوريا). يبقى ان ما لا يستوعبه الجدل حول التبعيات اللبنانية، والاشرافات الخارجية، القريبة والبعيدة، على الاطراف اللبنانية، هو ان علاقة «حزب الله» بإيران ليست كعلاقة اي طرف لبناني آخر بدولة اجنبية، الا «الحزب الشيوعي» (حتى نهاية الستينيات) بالاتحاد السوفياتي. هذا للتشبيه، لإعطاء فكرة وصورة، إنما المقارنة لا تستقيم من جميع النواحي، بين انقياد ايديولوجي في الحالة الشيوعية، وبين اطار تفرضه الايديولوجيا الدينية والارتباط الامني العسكري والحجم التعبوي، في الحالة الخمينية. اكثر من هذا، هناك فصائل عديدة في الشرق الاوسط تدور في الفلك الايراني، لكن «حزب الله» يختلف عنها جميعاً، في ان ارتباطه بها كامل «من مجاميعه» على كافة المستويات (بخلاف حالة المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق، الفصيل الذي يقول بولاية الفقيه لكن الذي تقوده الحسابات السياسية في مفاصل مهمة لاخذ مسافة عن ايران، في مقابل اقتراب سياسي اكثر من الموقف الايراني لدى فصائل لا تقول بهذه الولاية، مثل حزب الدعوة، في السنوات الاخيرة). التماهي بين «حزب الله» ونظام ولاية الفقيه والحرس الثوري مطلق. لا يمكن لـ «حزب الله» ان يذكر مرة واحدة اختلف فيها مع الولي الفقيه في امر من الامور (بخلاف كل رؤساء الجمهورية الاسلامية، معتدلهم ومتطرفهم ووسطيهم في علاقتهم مع علي خامنئي).
لا سردية التحرير الاول، ولا سردية التحرير الثاني، ولا الثالث او الرابع، بإمكانها ان تؤدي بالحزب الى «لبننة» على صعيد علاقته مع ايران. في الوقت نفسه، دون شيء من هذه اللبننة، دون شيء من اخذ المسافة عن سياسات ايران الاقليمية، لا يمكن للغرب ولا للعرب التطبع معه كظاهرة لبنانية منتفخة ومتجاوزة لحدود بلدها، على انها ظاهرة لبنانية قبل ان تكون ايرانية. ولهان الامر لو ان الحزب غير مهتم بهذا. لكن الحزب يريد الشيء ونقيضه. يريد ان يتطبّع الغرب والعرب مع فكرة انه الحزب المتحكّم بلبنان واللبنانيين، والحزب المتجاوز لكيانية وحدود لبنان حالما تستدعي ولاية الفقيه ذلك. يريد الحزب من الغرب والعرب معاملته كما لو انه ليس «حزب الله»، كما لو انه الحزب الشيوعي، مثلاً، ليس اكثر، لكن الحزب يعتبر ان لا شيء يفعله من اجل هذا الا الضغط على التركيبة اللبنانية، لجعلها وسيطة بينه وبين الغرب والحكومات الغربية، بمختلف انواع الضغوط. أما ان يكون على «الحزب» مساعدة من يضغط عليهم، من اجل تقديم، ولو اشارة محدودة الى انه قابل لكبح غلوائه، ولعدم الترجمة الفورية طول الوقت لخط الحرس الثوري في ايران، ومتفهم لعلاقات لبنان العربية والغربية، فهذه لا تخطر ابدا في بال الحزب وحساباته. يريد ان يفتي الآخرون باعتداله وعقلانيته، وأن يصعد هو بتطرفه وانفعاله.