تكاد الصورة البانورامية لـ «تيار المستقبل» أن تكون أقرب الى «البازل»، كل قطعة منها مستقلة بما فيها عن الأخرى، لا يستطيع جمعها وإظهار مضمونها إلا الرئيس سعد الحريري. ولعل غياب الحريري عن لبنان وعن متابعة تفاصيل «الحراك» الحاصل ضمن تياره الأزرق، قد دفع قيادات الصف الأول الى كثير من «الاجتهاد السياسي» وإلى فتح بعض القنوات، كل منهم بحسب طموحاته، وبحسب تفكيره مع من يدورون في فلكه، بما يمكن أن يكون عليه في حال قرر «زعيم المستقبل» أن يبقى خارج لبنان الى أجل غير مسمى.
ثمة ضجيج في «تيار المستقبل» بفعل المواقف المتضاربة حول القضايا السياسية المطروحة، وصراع النفوذ الدائر بين القيادات الأساسية. ولم يعد خافياً على أحد أن كثيراً من هذه القيادات بدأت تغرد خارج السرب الأزرق عن قصد، بهدف الوصول الى بعض المكاسب، مستفيدة من غياب الحريري بالدرجة الأولى، ومن عدم وجود ضابط إيقاع سياسي قادر على كبح جماح بعضها عن طموحاتها الرئاسية بالدرجة الثانية، وبالتالي يمكن القول إن «التيار» تحوَّل، في ظل غياب الحريري، الى ما يشبه «الحارات» التي لكل منها زعيمها وقرارها وسياستها…
لا تكفي الرئيس الحريري غربته الطوعية التي فرضها على نفسه، ولا أزمته المالية التي يبدو أن لا حل قريباً لها في الأفق، حتى يجد نفسه مضطراً لأن يحمل «الصافرة» ليكون حكماً بين المتنافسين في تياره، الساعين لإثبات وجودهم ولو على حساب تيارهم، في حين تخشى مصادر مستقبلية أن يخفت صوت «الصافرة الحريرية» في ظل هذا الضجيج المسيطر على «تيار المستقبل».
ففي الوقت الذي تنشغل فيه النائبة بهية الحريري في تقديم نفسها على أنها الأمينة على إرث الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومنعها أياً من المستقبليين الطامحين من أن يقضم أي جزء منه، يدخل الرئيس فؤاد السنيورة في صراع صيداوي مع «أخت الشهيد»، ويدرك في الوقت نفسه أن حظوظه في العودة الى السرايا الحكومية باتت شبه معدومة بفعل رفض «حزب الله» وقوى «8 آذار». وقد قرر السنيورة العمل وفق قاعدة «عليَّ وعلى أعدائي»، فلا يوفر مناسبة من دون التصويب على «حزب الله» و «التيار الوطني الحر»، وعلى ممارسة كل أنواع «الشغب السياسي»، سواء على الحوار الثنائي بين الحزب وبين «تيار المستقبل» الذي ما يزال الحريري يعتبره ضرورة وطنية، أو على الحوار الوطني الذي يقوده الرئيس نبيه بري في مجلس النواب.
ولعل اعتراض السنيورة على اقتراح الترقيات العسكرية، بالرغم من موافقة الحريري الضمنية، شكلت دليلاً على سعي السنيورة لوضع العصي في دواليب قطار التوافق، ما اضطر النائب محمد كبارة الى الرد عليه من دون أن يسميه عندما أصدر بياناً مقتضباً، له دلالات كبيرة، ودعا فيه الى «ترك معالجة ملف الترقيات في المؤسسة العسكرية الى حكمة ودراية الرئيس سعد الحريري وحده، لاتخاذ ما يراه مناسباً وهو الذي يتابع عن كثب سير عمل مجلس الوزراء وجلسات الحوار واضعاً نصب عينيه كيفية تفعيل عمل هذه المؤسسة لتسيير شؤون مصالح الناس».
في غضون ذلك، تبرز بعض التناقضات في الإستراتيجيات بين بعض القيادات الزرقاء، فوزيرا الداخلية والعدل نهاد المشنوق وأشرف ريفي يجلسان على طرفيّ نقيض: الأول بات يعتبر أن الطريق الى السرايا الحكومية يمر في الضاحية الجنوبية، وأنه كلما زاد من حجم التنسيق مع «حزب الله» وعمل على مكافحة الإرهاب، كلما اقترب من الجلوس على الكرسي الثالثة. أما الثاني فيبدو مقتنعاً بأنه كلما رفع السقف ضد «حزب الله» و «التيار الوطني الحر» و «قوى 8 آذار»، فإن ذلك قد يمنحه شرعية الحصول على لقب «دولة الرئيس».
في حين يحافظ النائب سمير الجسر على وسطيته واعتداله ضمن «تيار المستقبل»، بشكل ينسجم مع قناعاته السياسية والمحلية، ولا يخالف توجهات زعيم «المستقبل».
يعترف قيادي بارز في تيار «المستقبل» بوجود تلك الاجتهادات ـ الحسابات المتناقضة بين قيادات التيار، «وقد يصل ذلك الى التباينات والخلافات وصراع النفوذ، ولكن ما دامت هذه القيادات ملتزمة بتيار المستقبل وكتلته النيابية، فإنها مجبرة في نهاية المطاف على السير بتوجهات الرئيس سعد الحريري».
ويشير القيادي الى أن «كل ما يصدر اليوم من مواقف، سواء حول الترقيات أو الحوار أو تفعيل عمل الحكومة، مرده الى أن الرئيس الحريري لم يقل كلمته العلنية بعد، وعندما يقولها لا يستطيع الرئيس السنيورة ولا غيره أن يسيروا بعكسها».